التيسير.. منطق الاعتدال والتسامح

about 1 year in الإتحاد

«الفتنة أشد من القتل»، يعني القتل أخف من الفتنة لماذا؟! الفتنة سلوك فرد يودي بالمجتمع إلى الهاوية، قد يظنه أحدهم في البداية أمراً حسناً، ولكن بالإصرار عليه والتشدد فيه والتزمت في طرحه والتطرف في تطبيقه يخرج عن حد الاعتدال إلى مرحلة لا تُحتمل من كسر قوانين الأمن والآداب العامة في المجتمعات الآمنة والمستقرة. والأخطر من ذلك كله، أن تتحول الفتنة إلى فكر تتبناه جماعة أو حركة أو طائفة أو حزب يوجه من خلاله دفة المجتمع تجاه رغبات ونزوات وشهوات وأهواء تلك الملوثات لصفاء حياة المجتمع وحركته الانسيابية في النمو والتطور والتقدم، فيأتي هذا أو ذاك ليخرج قطار المجتمع الآمن عن مساره.
والغريب أن الفتنة تتلبس بتلابيب الدين في الغالب ثم تنتقل تدريجياً إلى السياسة فتدينها بدل من أن تُمدينها، وهو ما كان يؤكد عليه ابن خلدون عالم العمران البشري بأن الإنسان مدني بطبعه. ولن تقف الأمور عند تديين السياسة، بل تتعدى إلى جميع مفاصل المجتمع، إلى أن تسييس الدين فتقع الفتنة الكبرى كما جرى في العهود السالفة. نضرب مثلاً بقضية دينية مما لا يختلف عليها اثنان، فضلاً عن أن يرفع من أجلها سيفان.
ننتقي أهم ركن في الإسلام بلا منازع، ألا وهو الصلاة التي لا تسقط عن العبد ولو يصلي بقلبه إن كان مدركاً. ولكن عندما نأتي إلى تنظيم شؤون حياة الناس في المجتمعات فالوضع يختلف. فلنشدد عضدنا بحامل مشعل الهداية للعالمين مع من لقب بـ«بجبل العلم» معاذ بن جبل، فعن جابر رضي الله عنه، قال: كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي فيؤم قومه. فصلى ليلة مع النبي العشاء. ثم أتى قومه فأمهم. فافتتح سورة البقرة. فانحرف رجل فسلم. ثم صلى وحده وانصرف. فقالوا له: أنافقت يا فلان؟!
قال: لا والله! ولآتين رسول الله فلأخبرنه. فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله إنا أصحاب نواضح. نعمل بالنهار. وإن معاذا صلى معك العشاء. ثم جاء يؤمنا فقرأ سورة البقرة. فأقبل رسول الله على معاذ فقال: «يا معاذ أفتان أنت؟! اقرأ بكذا واقرأ بكذا». رواه مسلم. في العهد النبوي لم تكن قضايا الإسلام سائبة، بل موثقة من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يقوي دعائم السلم الاجتماعي بين أصحابه مهما علا شأن البعض منهم، فمن يخرج عن حد الاعتدال والوسطية يعيده المصطفى إلى الموقع الأصح.
ففي هذا الحديث أمر في غاية الأهمية ألا وهو ضبط الدين بالدنيا، أي بمعنى أن شعائر الإسلام وإن كانت بأهمية الصلاة، فإن الإمام أو الخليفة أو الملك أو الحاكم يجب عليه مراعاة المصلحة الدنيوية للناس عند تنفيذ الشعائر على الأرض. فالصحابي الذي كان يرعى إبله طوال النهار إلى ساعة قريبة من الليل لا يملك الطاقة التي تعينه على قراءة معاذ لسورة البقرة وهي الأطول في القرآن، فمصلحة هذا المُتعَب مقدمة على مصلحة معاذ في الإطالة في وقت يستعد فيه الناس للنوم مبكراً، فهذا التيسير جوهر الدين الإسلامي في جميع تشريعاته ومن يخرج عن هذه القاعدة، فصاحب القرار في أي مكان أو زمان من واجبه إعادة البوصلة إلى منطقة الوسط والاعتدال والتسامح. *كاتب إماراتي

Mentioned in this news
Share it on