الرياح في التراث الإماراتي.. كل هوى وله شراع
حوالي سنة فى الإتحاد
محمد عبدالسميعالرياح مفردةٌ طبيعيّةٌ لافتة، نظر إليها الإنسان الإماراتيّ ووجدها على علاقةٍ وتفاعلٍ مستمرٍ معه، فهي إمّا أن تكون نذير خطرٍ مُحدق، أو وسيلةً رومانسيةً للذكرى واستجلاب الأخبار، حين تهبُّ مع هبوبها على الشعراء والنواخذة والعاملين في البحر رياحُ الحنين وآمال اللقاء، وحين «تسفو» هذه الرياح غبار الصحراء فتحرّكها وتهزّ جذوع الأشجار، فيكون بقدومها المطر وما تحمله من سحابٍ يفرح به الشاعر تماماً مثل فرحة من ينتظر الماء لتعشب الأرض وتنمو الحياة ويخضرّ وجه الأرض.لكنَّ هذه الرياح، بما هي عنصرٌ من عناصر الطبيعة، وبِغضِّ النظر عن تسمياتها وفق مكان هبوبها أو درجة حرارتها أو نَسِيمِها، أو صفاتها المؤثّرة في الإنسان والزرع والبحر والصحراء والجبل وغيرها من البيئات، .. تدخل بقوّة في المكوِّن الاجتماعي والنفسي الإماراتي، فتحرِّض على الشوق والوصف والتحوّط لها، بل والخوف منها، ولهذا فقد دخلت بسهولة وانسابت في الذهنية الإماراتية والوجدان الشعريّ والمَثل الشعبيّ، بل وفي ثنايا الأغنية التي ما نزال نرددها، فنشعر بجمال البوح ومخاطبة هذه الرياح بأسمائها وطلب الأخبار أو البشرى منها، أو العمل على «أنْسَنتها»، بحوارها ورجائها أن تتلطف أو تحمل الخير، ومن يفعل ذلك فإنّه في النهاية يصف وصفاً له وجاهة أن نحتفي معه بهذا العنصر الطبيعيّ، فنقرأ حضوره ونترك أثره للأجيال لمعرفة المعاناة مع الرياح والتصالح معها، أو تجنّبها، أو قصّ الحكايات والأساطير في ثناياها ومع كل هبّةٍ منها، فهي طقسٌ مثله مثل طقوس المطر والشمس والقمر والنجوم والأشجار، ارتبط معها الإنسان بعلاقةٍ حميمةٍ فشاركته الحياة والمسكن وظلّت ترافقه ويشعر حيالها بحضورها وسطوتها وما تثيره من أشواق ومتاعب وقلق وخوف.محرك ومحفزولو قمنا بإحصاء الرياح والأهوية بمسمّياتها، وما قيل فيها من أشعار، فإنّ هذه العجالة ربما لا تكفي للحديث عن علاقة الإنسان الإماراتيّ بها وحضورها الأثير لديه، ومداليل هذه التسمية والأوصاف، لدرجة أنّنا نكتشف كم هو الإنسان على تفاعلٍ وتماس معها، فمن الطبيعيّ إذن أن تشغل فكره وعقله ووجدانه وتتخلل أشعاره، فيناديها بأسمائها، ويطلب منها، ويعاتبها ويتساءل أمام قسوتها ويفرح بقدومها، .. وهكذا.ويحسن بنا في هذا المجال أن نتخيَّر أكثر من غرضٍ يؤكد ما نحن بصدده من محاولة فهم دلالة هذه الرياح ومصاحباتها النفسيّة لدى الإنسان الرفيق معها، والشاعر بوجودها، والخائف منها في الوقت ذاته، فلقد دخلت الرياح في الأغنية والفنّ وفي القصّة والكتابة والدراما والمسرح، وفي الحكاية الشعبيّة والأهازيج، وفي كلّ ما يستثير الذائقة البشريّة ويخاطب أحاسيسها ونوازعها، باعتبارها محرّكاً ومحفّزاً يتنافذ على الكثير.وفي الشعرّ الشعبيّ، بوصفه أدباً دؤوباً في الاحتفاء بالرياح ومغازلتها، تطالعنا عيون القصائد الشعبيّة والنبطيّة بحضور الرياح والذهاب إليها عن قصدٍ من الشاعر وحركةٍ جميلةٍ منه نحوها، فكم قرأنا لشعراء النبط وهم ينثرون دموعهم مع الرياح لسببٍ أو لآخر، في قصائد ما تزال ماثلةً بيننا حتى اليوم بكلّ ما فيها من خوفٍ أو تحوّطٍ أو رجاء.فهذه الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي- فتاة العرب- تقول في وصف رياح «المزر»:يت بالصبا سرّايهقزرٍ تلاها غيمفي حين يتألّق الشاعر «بن هتاي» في التمنّيات تجاه هذه الرياح ومصاحباتها، حيث يقول:يعل المزون البيض لي رظوفها زرقتمزِر ويزغاها هبوب الشروقيوهذا شاعرٌ مجهولٌ يقول على لسان النوخذة في البحردامنه يا دامنه والبحر لا تامنه حيث ذكر «الدامنة» كمتعلق من حبال السفينة، مخوِّفاً ومحذِّزاً من البحر، بل إنّ من الشعراء من كان يحاور الرياح بكلّ إحساس، طالباً منها التوقّف، كمحاورة أحد الشعراء لرياح «الكوس» بشكل قاسٍ ربما، حيث يقول:يالكوس بسّك بسّكماخذ هواك مديبواليوم شِ اللي دسّكيوم الغربي صليبومثلما كانت الرياح سبباً في البشرى، فقد كانت محلاًّ للعتاب والتخوّف، حيث يصف الشاعر راشد بن حميد المزروعي رياح الكوس بقوله:يا الكوس جيت بغير برهانعقب العقل باداك لجنونعقب العشا سويت ريعانمويك تبنّا مثل الحصونخلّيت لي في الدار حيرانحيران يرقب باسك يهونومن جماليات الرياح، كخطابٍ للشعراء في الإمارات، أنهم اتخذوها لتبلّغ المحبوب وتحمل إليه المكتوب، كما في قول الشاعر خليفة بن مترف مخاطباً «نسيم البر»:يا نسيم البر يا النودييا مخفّف طلة الناديمن حسانك يعلك تعوديبلّغ المكتوب يا غاديللذي عنْوي ومقصوديومْعناي وغاية مراديإن لفيت الدار قل هوديوينكم يا نسل المجاديويقول المغفور له الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، مخاطباً رياح الكوس:يا الكوسه لِاعشويّه ما يبتي لي سدادبي مقرون الاِحيهبو شارعٍ منقادزاد الحمى عليّهوتزيد بي الايهادوتقول الشاعرة عوشة السويدي أيضاً في قصيدتها المشهورة:هبّ شرتًا لافح ترسامن فيوي دبيّ نسناسهياب لي في مسمعي همساحركت في قلبي جراسهكما تقول أيضاً:هلا بك عدّ نسناس الصبا والمطلعي والياهويهلا عد مويات البحر عبر الغبيب السودوتقول:مرحبا ما هبّ ذعذاع الجنوببارد النسناس لي صوبي حملومن أغراض قول الشعر في الرياح تبيان العدد بحجم هذه الرياح، وهو ما يدلّ على المحبة واختتام القصيدة، كما في قول الشاعر سالم الجمري:والختم صلّوا عدد ما لاح برّاقواعداد ما هبّت شمالٍ عقب دوقويقول الشاعر سالم الدهماني:تمّت عدد ما خط كتّيبواعداد ما صلّب هوى الكوسالأمثال الشعبيةدخلت الرياح في الأمثال الشعبية والعبارات الموجزة الدالّة على تجربة الحياة عند الكبار وأصحاب التجربة والمعرفة، كما في قولهم: (السبعين اذا يت ليلة الجمعة اتسبّع)، أي أن رياح السبعين الباردة حين تأتي ستستمرّ أسبوعاً، وقولهم: (برد الطّلوع يثّر في الضلوع)، وقولهم: (العقرب يسقي بر وبحر)، وقولهم كذلك: (كل هوى وله شراع)، .. وهكذا من الأقوال والأمثال والعبارات.وتدخل الرياح بطبيعة الحال في الأعمال التشكيلية الإماراتيّة، كما هو الحال عند الفنان التشكيلي الإماراتي الدكتور محمد يوسف، الذي يرى أنّ العمل الفني يكون أفضل وأجمل عند وجود صوت، ليصل للمشاهد إحساسٌ معين، مثل عمله الفني «النعاشات»، الذي يعبّر عن علاقة الريح بالشّعر، حيث يشعر بالعمل أكثر إذا كان فيه حركة، مثل صوت المدّ والجزر وحركة الموج وضجيج الأطفال، وهو الفنان المهتمّ بتحويل الموسيقى إلى أعمال فنيّة، في أعماله التركيبية، المبنيّة على خامة الخشب المأخوذ من شجرة النخيل، حيث تجسّد الريح ارتباطه بالبيئة الطبيعية بريح الشمال والكوس والغربي، من خلال الإيقاع القادم من الطبيعة، والذي يوحي بدلالات الزمن.ومن الطبيعي أن تحمل الرياح أفكاراً تثير المخاوف وتنقل الإنسان الحسّاس إلى عوالم غيبية وأرواح ربما تكون شريرة، حيث يوحي صفير الرياح بحضور الجنّ والعالم الآخر، وهو ما يدخل في أعمال الدراما والمسرح والسينما، كمؤثر صوتي قوي يستدعي الكثير من محفّزات الذات الإنسانيه على التخيّل والمتابعة.وبالطبع، فإنّ الرياح، ولكثرة هبوبها، ربما تزيح عن كاهل الأرض أتربةً ورمالاً، فتترك المختصين والباحثين أمام آثار غافية تحت هذه الأتربة والرمال، ولهذا فهي عنصرٌ مهمٌّ في الاكتشافات والبحوث الأثرية.