«واجه الإنجليز بالكرة وتقاضي جنيها نظير ٨٠ قصة».. قراءة في حياة «النجيب»

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

عندما قبّل الروائي العالمي باولو كاويلهو يده، سائلًا: «لماذا لا تكتب لنا يا سيّدي سيرتك الذاتية»، رد عليه «النجيب» قائلًا: «حياتي الشخصية ليس فيها ما يهم أحد»..

النجيب محفوظ

في الحادي عشر من ديسمبر عام 1911، بينما يتساقط المطر في شوارع القاهرة، وحالة من الجدل مازالت قائمة بين جموع الشعب بعد وفاة الزعيم أحمد عرابي، حيث لم يكن مضى على رحيله سوى أربعين يومًا؛ كان عبد العزيز إبراهيم أفندي، القاطن بحي الجمالية، يُتابع حالة الولادة المُتعثرة لمولوده الأخير، لحظات صعبة دفعه فيها الخوف أن يخرج عن تقاليد مجتمعه، فاستدعى لزوجته الطبيب الأشهر وقتها «نجيب محفوظ باشا»، والذي بدوره أنقذ حياة الزوجة والطفل، ما جعل الوالد يُطلق اسم الطبيب النجيب على مولوده.. اسمًا مركبًا «نجيب محفوظ».

لم يكن يعلم الوالد الأفندي أن هذا الطفل سيعيش عمرًا مديدًا يزيد عن التسعين عامًا، وسيكتُب أدبًا وقصصًا ويحكي الكثير من الحكايات ويُؤلف أكثر من 50 رواية ليُصبح عبرها رائدًا للرواية العربية، ويحصل على أعلى جائزة أدبية في العالم.

كُرهه للمدرسة وحبه للثورة

وفي صباح أحد أيام مارس عام 1919، كان الطفل نجيب يذهب كعادته في الصباح إلى المدرسة، فوجدها مُغلقة وكان يكرهها، حيث كانت بالنسبة له مكان للإكراه ولفرض الإرادة والقهر، واكتشف أن ذلك بسبب المظاهرات، فدعا أن يُبارك الله الثورة وأن تستمر إلى الأبد، وتبلور في فؤاده الزعيم سعد زغلول، حسب الكاتب عمار علي حسن.

ابن جونسون و«الأعوام والحسرات»

«المقهى» كان أول مكان اتصل فيه بعالم القصص، والذي يعتبر أنه دخله مُصادفة، ويروي: «كان ليّا صديق في مدرسة الحُسينية اسمه يحي صقر، لقيته يوم بيقرأ رواية بوليسية بالفُصحى، أظن اسمه (ابن جونسون)، فقولتله عليها قالي هديهالك بعد ما أخلصها، وكانت هذه بدء قراءتي للكُتب غير المدرسية».

يقول زكي سالم، قاصِ وأعضاء شلة «حرافيش» نجيب محفوظ، «بعد ما قرأ كتير من القصص، بدأ يجيب كراريس ويكتب القصص التي قرأها بأسلوبه ولُغته، ويوقع عليها (بقلم نجيب محفوظ)»، وكان يكتُب «الأيام» لطه حسين، ويُسميها «الأعوام»، و«العبرات» لمصطفى المنفلوطي، ويُسميها «الحسرات».

كرة القدم

صراع نشّب في داخله كان بداية الطريق الذي سلكه ليُصبح أديبًا، وكان والده يُريده أن يدخل كلية الطب أو الحقوق، ووالدته كانت ترى أنه يجب عليه أن يختار طريقه، بينما هو كان يُفكر أن يكون موسيقيًا، وكان يُحب كرة القدم، ويظن أنه قد يكون لاعب كرة مهم، حسب دكتور مازن النجار.

ويوضح الباحث الأدبي إبراهيم عبد العزيز، أن «نجيب كان يتصور في طفولته أن الإنجليز لا يُهزموا أبدًا، إلا حينما يُلاعبهم المصريين، الفريق المصري كان يُسمى بـ(قلب الأسد)، كان يُلاعب الإنجليز ويهزمهم، وكان ذلك يُسعده للغاية، حيث بذلك يستطيع المصريين أن يهزموا الإنجليز في ملاعب الكرة طالما لم يستطيعوا هزيمتهم في الواقع».

وبدأت علاقة «محفوظ» مع كرة القدم حينما كان يلعب في فريق الصغار بالمدرسة، وأجاد اللعب بقدمه اليسرى، وأصبح هداف فريقه، لكن مركزه تغيّر مع انتقاله إلى المدرسة الثانوية، حيث لعب في قلب الدفاع، وأجاد هذا الدور كثيرًا، ويقول عن نفسه: «كثيرون ممن شاهدوني في ذلك الوقت تنبأوا لي بالنبوغ في كرة القدم، وبأنني سألعب لأحد الأندية الكبيرة، ومنها إلى الأولمبياد مع المنتخب الوطني»، واستمر 10 سنوات يمارس كرة القدم، قبل أن يتجه إلى الأدب، ويقول: «لم يأخذني من الكرة سوى الأدب، ولو كنت داومت على ممارستها فربما أصبحت من نجومها البارزين»، وبعد ابتعاده عن ممارسة اللعبة، شجّع نادي الزمالك، وكتب رواية عن كرة القدم في الأربعينات، لكنه مزّقها، كما روى الروائي جمال الغيطاني في كتابه «المجالس المحفوظية».

طه حُسين والفلسفة

وفي بداية العام الجامعي، توجه «نجيب» إلى جامعة القاهرة، ليقف أمام لجنة يرأسها عميد الأدب العربي طه حُسين، ليُخبرهم عن رغبته في دراسة الفلسفة، ويقول «الغيطاني»، «حُسين سأله: عايز تدخل كلية الآداب ليه؟ فقاله: عايز أدرس أصل الوجود، فقاله له حُسين: أنت فعلًا بتقول كلام غير مفهوم يبقى روح قسم الفلسفة».

الشيخ المُستنير

بعد تخرجه تعرف على الشيخ مصطفى عبد الرازق، واعتبره من المشايخ المُستنيرين الذين يجمعون بين الآصالة والمُعاصرة وسماحة الدين ورُقيه، وكان يذهب لبيته ويطلع على مكتبته، وتعلم منه الكثير، حسب إبراهيم عبد العزيز.

أول «جُنيه» وأول رواية

عيُّن «محفوظ» في الجامعة، واشتّد صراع جديد بداخله، وانتهى به لأن يُقرر أن يكون كاتبًا فقط واختار أن يخوض تجربة الأدب بالإضافة لحياته الوظيفية، ثم شرّع في كتابة القصص القصيرة، ليتلمس عبر قلمه خطواته الأولى في عالم الأدب العربي، وعاني كثيرًا في البدايات فيما يتعلق بالنشر، وحينما فُتحت له الأبواب نشر 80 قصة، من خلال مجموعته الأولى «همس الجنون»، حتى تحصل على أول راتب له من وراء ذلك، وتقاضي «جُنيهًا»، واعتبر ذلك الجُنيه من أعظم الأشياء المُفرحة في حياته.

التمس قلمه وكتب أول رواية له «عبث الأقدار»، ومن خلالها نجد مفتاح شخصيته الروائية، حيث أن هذه فكرة «الحظ والقسمة والنصيب» كانت تُسيطر عليه، حسب الدكتور حازم حُسني.

النساء والحشيش والقمار

في نهاية حياته، ذكر «محفوظ» الكثير من أسراره في تسجيلات مدتها خمسون ساعة مع الكاتب الصحفي رجاء النقاش، على مدى سنتين من لقاءاتهما، نشرها الأخير في كتابه «في حب نجيب محفوظ» - دار الشروق 1995، وكشف لـ«النقاش» أن حياته العاطفية لم تكن بريئة أبدًا، قائلًا: «في الفترة التي سبقت زواجي عشت حياة عربدة كاملة، كنت من رواد البغاء الرسمي ومن رواد الصالات والكباريهات ومن يراني كان يظن أنني حيوان جنسي، فكانت نظرتي للمرأة جنسية، لا عواطف ولا مشاعر فيها، وإن كان يشوبها بعض الاحترام».

ويحكي أنه كان يعيش في ظّل عذابِ يومي بسبب علاقاته المتعددة بالفتيات في سن المراهقة، والتي كان يتجاوز فيها الحد، ويُضيف: «كانت التجاوزات البريئة تصطدم بالإحساس الديني وهو على أشده، لدرجة أنني كنت أتوجه بالتوبة إلى الله يوميًا، وأعيش في عذاب مستمر من تأنيب الضمير»، ويوضح أنه كان يدخن الحشيش يوميًا، ويقول عن ذلك: «عرفت أديبًا شابًا موهوبًا، كان لديه عوامة نقضى فيها نصف الليل ما بين الحشيش والأوانس، وعلمني القمار، وكنت أشرب الحشيش يوميًا، لكني بطلت خوفًا من التفتيش الذي كان يلازم البيوت بعد انفجار سينما مترو».

«محفوظ» أكد أن الصوفية هم أكثر من روجوا للحشيش وتعاطوه لأنه كان يسعدهم ويسرّع من ارتقائهم إلى حالة التجلي والوصول التي يسعون إليها دائمًا، مشيرًا إلى أن «تدخينه في مقاهي القاهرة كان أمرًا عاديًا كشُرب الشاي، وكانت أكبر عقوبة لتدخينه في الأماكن العامة هي بضعة قروش، ولذلك كان نعم الصديق للشعب المصري ووسيلته لنسيان الهموم».

ويقول الناقد الأدبي الدكتور محمد بدوي، إن محفوظ نقل حياته تلك إلى أعماله، حيث اعترف أنه «كمال عبد الجواد» الحقيقي، بطل ملحمة الثلاثية، والتي استمر في كتابتها لـ6 أعوام وانتهى منها قبل اندلاع ثورة 52، ذلك الشاب المتدين المتعلم والذي يقع في الخطأ، بينما يُجزّم زكي سالم، أن شخصية «محفوظ» الحقيقية بالفعل موجودة في الثلاثية، وعبّر من خلالها عن آماله وآلامه في صغره وشبابه، ويؤكد حازم حسني أنها كانت بمثابة إسقاطات على واقعه الشخصي، وتجربة «أمينة» هي رحلة والدته في الواقع.

بين ثورتين وما بعدهما

بين الثورتين أصبح النجيب أديبًا لامعًا، وأصبح إبداعه علامة فارقة في الأدب العربي، ومع اندلاع الثورة رغبته في الكتابة توقفت تمامًا، حيث كان يحلُم بمجتمعِ يقوم على قيم ثابتة أولها الحرية والعدالة الاجتماعية والعلم والقيم السامية المستمدة من جميع الأديان، وخاصةً الإسلام، وقال إنه أُجهد بعد الثلاثية، وقال أيضًا أنه لم يعُد للكتابة دور بعد استيلاء الضباط على السُلطة، ولكنه نهايةً أكد أنه لا يعرف سببًا حقيقيًا لتوقفه في تلك الفترة التي استمرت لـ5 سنوات، ثم سجل روحه في نقابة السينمائيين كسيناريست، وتزوج وأنجب، وأستقر في وجدان نجيب الطفل، شكّل مسيرة ومسار النجيب الناضج فيما بعد.

شارك الخبر على