دوامة لعبة الاختيار

حوالي شهر واحد فى الإتحاد

الفيلسوف الوجودي الفرنسي «جان بول سارتر» كانت له مقولة تحمل في طياتها فلسفة عميقة تخص الإنسان ودواخله ووجوده، هي أن «عدم الاختيار يُعد اختياراً»، وهناك فيلم عربي جميل للغاية للمخرج «يوسف شاهين» ومساعده «علي بدر خان»، قصة نجيب محفوظ، اسمه «الاختيار» من بطولة «عزت العلايلي وسعاد حسني»، و«يوسف وهبي ومحمود المليجي»، وهو من الأفلام العربية الجميلة التي لم تنل حقها في الذيوع والشهرة، وتحدثت عنه عابراً من باب قول العرب: للحديث شجون. وليس أكثر شجناً وتشعباً وعمقاً من الحديث عن مسألة الاختيار في حياة الإنسان، وهو تكريم رباني للبشرية، اختصهم به، وربما تكون هي الأمانة التي تنوء عن حملها الجبال الثقال:- تحتار أيها الإنسان العاقل حد الحكمة، العارف حد بلوغ المرام، المجرب حد تولي الزمام.. فلا يغلبك مثل الجهل، ولا يردعك مثل الحمق، ولا يخرسك مثل عدم المروءة، وغياب معنى الشرف والصدق والأمانة.- يحتار الإنسان كثيراً ودائماً في التعامل مع الجاهل، فلا إن غلبته رضي، ولا إن تركته يغلبك يرضى بالسكوت!- يحتار الإنسان غالباً في التعامل مع الشخص الغبي، فلا يتركك تهزمه بشرف، ولا يعتلي هو الشرف ليهزمك!- يحتار الإنسان دوماً في التعامل مع الأحمق، فإن فزت عليه غضب وجرح، وإن تحاشيت الغلبة والفوز عليه تعملق وبطر وبطش!- يحتار الإنسان فلا يختار في كيفية التعامل مع الصغير، فإن نزلت لمستواه سخر منك وفضحك، وإن ترفعت عنه جهل فوق جهل الجاهلينا!- يحتار الإنسان في التعامل مع المتعصب، فالفوز عليه يغضبه، والفوز عليك يزيده شراً!- يحتار الإنسان أحياناً في التعامل مع الجار النحس، فلا الجوار يحسنه، ولا ترك الدار له يفرحه!- يحتار الإنسان كثيراً في التعامل مع الأشرار، فلا التعالي عليهم أو نثر الورد في طريقهم يلينهم، ولا التغاضي عنهم أو زرع الشوك في دروبهم يغير طبعهم وميولهم!- يحتار الإنسان في التعامل مع الأخيار، فإن سبقتهم للبر شكروك، وإن تأخرت عن الإحسان أعانوك، وعليه دلّوك!- يحتار الإنسان في التعامل مع الشريف، فإن غلبك لا يتركك مهموماً، وإن غلبته لا يتركك للفرح وحدك!- يحتار الإنسان في التعامل مع الكريم، فإن نصحته زادك من كرمه، وإن أحجمت زادك من نصحه، وأكرمك!- يحتار الإنسان في التعامل أحياناً مع الحقود، فالنصح يزيده اعوجاجاً وتعجرفاً، والتجاهل يزيده عناداً وتكبراً!- يحتار الإنسان أحياناً في التعامل مع المرأة، فليس غير المدح يطربها، ولا شيء غير الثناء يعجبها، وعليك أن لا تخالط غيرها، فتغضبها!- يحتار الإنسان كثيراً في التعامل مع صاحب الفكر الواحد، فلا هو يسمح لنوافذه بأن تفتحها الريح، ولا هو يفتحها ليرى من خلالها نور الله، وشمسه، وصفاء منحه، وتنوع خيره، وبسط عطاياه!- يحتار الإنسان أيما حيرة في التعامل مع البخيل، فلا هو يفتح يده المضمومة، ولا هو يبسطها كل البسط إلا إذا أخذ، وتسمع منه عبارة: هات، وهل من مزيد؟!- يحتار الإنسان أحياناً في التعامل مع الغريب، فلا هو يعتبرك قريباً، لتهدأ نفسه، ولا أنت تقدر على أن تجعل منه قريباً فتطمئن له!- يحتار الإنسان دائماً في التعامل مع المتسلق، فلا غاية يصلها، وتقول: كَفّ الأذى، وحان له الابتسام، ولا فرح يوصله لمكانه، وتقول: كَفّ التبدل، واستقام!- يحتار الإنسان دوماً في التعامل مع المتلون، فهو يرى خلل السواد رماداً، ويرى خلل البياض سواداً، هو وحده الذي يليق به لون الغربان الأغبر مثل دلالة قدوم الشر والموت!- يحتار الإنسان فلا يعرف التعامل مع الظالم، فالخسارة تزيده ظلماً، والفوز يعينه على الظلم ضيماً!- يحتار الإنسان ولا يملك الاختيار في التعامل مع جيران، فلا نجاحك يفرحهم، ولا فشلك يسكتهم، ولا ترفّعك يرفعهم، ولا تغاضيك يسعدهم، ولا يدك الممدودة بالخير تحرسهم وتخرسهم، ولا صمت الحكمة عن غيهم يرجعهم أو يشفع لهم!- كم هي متعبة لعبة الاختيار في حياة الإنسان المحتار!

شارك الخبر على