انتخابات الأندية «كل هذا السفه»

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

ضجيج وصخب، صراخ وشتائم، اتهامات تافهة تصل إلى أعتاب القضاء، برامج إعلامية محمومة، أموال كثيرة يتم إنفاقها بلا حساب، كل هذا من أجل مقعد في أحد الأندية الرياضية، منصب تطوعي بلا عائد، أو هكذا يقال عنه، ولكن الصراع في جوهره كان بحثًا عن النفوذ، المادي أو المعنوي، كل ما يمكن للمال شراؤه، حدث هذا كله في انتخابات محدودة، ليست للرئاسة أو مجلس النواب أو حتى مجالس الحكم المحلي، ولكنها لا تتعدى أعضاء بعض النوادي الرياضية، عددها لا يتجاوز بضعة آلاف في بلد يعد بالملايين، ولكنها تحولت لتستأثر بكل الاهتمام، وأصبح الصراع على مقاعدها أشبه بصراع البقاء، حدث هذا في معظم الأندية، ولكنها في الناديين الأشهر الأهلي والزمالك، اتخذت بعدا ضاريا، توارت قضايا الرياضة وما يتبعها من قيم وأخلاق ولم تبق إلا لغة المال، فالأندية المصرية أضعف من أن تحقق إنجازا رياضيا كبيرا، ومعظم خزائنها لا تحتوي على ميداليات أوليمبية حتى ولو كانت نحاسية. 
والنادي الأهلي، أكبر هذه الأندية وأكثرها عراقة، لم يصل إلى مستوى الذهب الأوليمبي بعد والدولاب العملاق الذي صنعه مؤخرًا لا يحتوي إلا على بضع كؤوس إفريقية صنعت من الصفيح المقوى، ولكن رئاسته مثل بقية الأندية، تحقق دائما "البرستيج" لكل من يقودها، ويجعل وسائل الإعلام تحيط به بسبب أو بدونه، ويشعر كل واحد منهم أنه رئيس مطلق، لا يسائله أحد، مهما كانت أخطاؤه، ولا يحاسبه أحد مهما أنفق، ومهما ادَّعى فلا أحد منهم ينفق من ماله الخاص، ولكنهم جميعا يتحايلون على المال العام.

في معركة انتخابات الأهلي تخطى صرف الأموال الحدود المألوفة، وأنفق الطرفان أموالا لا أحد يعرف مصدرها، وتخطى الأمر حدود التنافس إلى معركة لفرض القوى بين منافسين مشهورين، وجهاهما مألوفان من الصحف وشاشات التليفزيون، ليسا في حاجة لإعادة نشرهما مرة أخرى، ولكن كل واحد منهما أصر على أن يأخذ مساحة واسعة على حساب الآخر، أن يبقى نفسه في دائرة الضوء ويدفع بالآخر إلى منطقة الظلال، لذلك خرجت صور الدعاية من أسوار النادي إلى المنطقة المحيطة به، ثم تعدتها إلى المدينة كلها، ثم بواسطة شاشات التليفزيون انتقلت من القاهرة إلى العديد من الدول العربية، وفي كل مرحلة كان البذخ في الإنفاق يزداد ومعدلات الأرقام ترتفع في جنون، في بلد فقير، المفترض أنه يقترض ليدبر قوت يومه. 
المرشح الأول كان هو نجم الكرة السابق محمود الخطيب الذي اعتزل الملعب منذ حوالي ثلاثين عاما، ومع ذلك ظل تحت الضوء، تواصلت أسطورته لأنه لم يظهر لاعب ببراعته نفسها، ومنذ أن أعلن عن ترشحه وقد أدرك الجميع أنه فائز بالمنصب، لم ينتطح في ذلك شاتان كما يقول الأقدمون، كان الخطيب في هذه المعركة يمثل الشهرة والتاريخ، ورغم ذلك فقد اضطر هو أيضا إلى الإنفاق، على الأقل حتى يجاري خصمه إلى حد ما، واعترف بأنه أنفق ما يوازي سبعة إلى ثمانية ملايين جنيه، والمؤكد أنه أنفق أكثر من ذلك، قال أيضا إنه قد تلقى الكثير من الهدايا والتخفيضات، ويبدو هذا واضحا من قائمته، حيث الكثير من رجال الأعمال، بعض من ملوك الحديد والجبنة والمنتجعات، لذا أعتقد أن الرقم الذي ذكره كان مضاعفا، ولكن المنافس الآخر محمود طاهر قبِل التحدي، لم يكن بشهرة الخطيب، ولكنه كان الرئيس السابق للأهلي، ويدرك جيدا مزايا المنصب، ووسيلته الوحيدة للوصول إليه هي الإنفاق بجنون وبلا حدود، يريد أن يؤكد لنفسه وللآخرين أن المال يمكن أن يهزم الشهرة والتاريخ، قرر أن يملأ الشوارع بصوره، ويملأ شاشات التليفزيون بالإعلان عن إنجازاته، وأن يدفع الكثير لتأليف الأغاني التي تشدو بأمجاده، ويكتب اسمه على كل شيء، السيارات التي تجوب الشوارع، والإعلانات المعلقة على أعمدة الإنارة، وحتى على أشرعة مراكب السباحة في النيل، وبلغ به الجنون أقصاه حين وجد خصمه على شاشة التليفزيون وهو يتحدث عن قائمته في أحد البرامج فقرر أن يحتل بإعلاناته كل الفواصل الإعلانية، بحيث يحاصره ويزاحمه في مساحته الخاصة.

لا أحد يعرف الرقم الذي أنفقه محمود طاهر في محاولته لصنع تاريخ لنفسه، ولكن من المؤكد أنه كان رقما هائلا يتعدى المئة مليون، وقد آزره العديد من رجال الأعمال الذين ترتبط مصالحهم به، ولا أعتقد أننا بمعلوماتنا المتواضعة يمكن أن نعرف سر ثروته، فهو يعمل في مجال النفط في بلد غير بترولي، الدولة لا تملك فيه إلا نصيبا متواضعا مما تتركه الشركات الأجنبية، والصناعات القائمة في مصر على مشتقات البترول بدائية إلى حد ما، ولكن يبدو أنها غزيرة الربح بدليل هذا الإنفاق الجنوني، ومحمود طاهر -كما تقول سيرته الذاتية- يملك ويرأس مجلس إدارة عدد من الشركات، كلها مرتبطة بالبترول ويحيط بها الغموض، فهي تشمل كل التخصصات التي تقوم بها الشركات الأجنبية من اكتشاف وحفر وتنقيب وليس واضحا بالضبط حجم الدور الذي يقوم به. 
العمل الوحيد الواضح هو أنه وكيل شركة نايك في مصر، وهي من أشهر شركات الملابس والمعدات الرياضية الأمريكية، ولعل هذا هو الذي ربطه بالرياضة، فقد دخل من خلالها إلى الأهلي ثم اتحاد الكرة حتى أصبح رئيسا للأهلي، وحصل على "البرستيج" الذي كان يحلم به، ولكن لا بد أن الأمر كان يعني له أكثر من ذلك، فقد أنفق كثيرا وصارع أكثر حتى يظل محتفظا بالمنصب، صراع الخطيب على المنصب يبدو منطقيا، لأن الكرة هي قصة عمره منذ أن كان لاعبا حتى أعلن اعتزاله، ثم ترقى إلى المناصب الإدارية المختلفة، وهذا المنصب كان تجسيدا للحلم الذي عاش عمره للوصول إليه، ولكن الأمر لم يكن بنفس المنطق بالنسبة لمهندس البترول محمود طاهر، فقد بدا مستميتا على البقاء في هذا المنصب التطوعي بطريقة مثيرة للشبهات.

ولكن هل يمكن أن تمر هذه المعركة الانتخابية دون مساءلة؟ ألا توجد أجهزة رقابية تلاحظ كل هذا القدر من الإنفاق، هذه الملايين التي خرجت من مكامنها الخفية وتم إنفاقها في الهواء، إرضاء لرغبة شخصية أو طموح خفي، من أين جاءت؟ هل تم كسبها بطرق شرعية؟ وهل تم دفع ضرائبها؟ وهل استثمار المنصب يساوي التكلفة التي دفعت فيه؟ 
لا نريد التشكيك في ذمة أحد، ولكن في ظل الظرف الاقتصادي الصعب الذي نمر به فإن هذا السفه لا يمكن أن يمر مرورا عابرا، فهؤلاء الأشخاص عندما يرتقون لمستوى المسئولية يتصرفون في ميزانية الأندية بالدرجة نفسها من السفه، ويكفينا أنهم يعودون إلينا خائبي الأمل دون أن يحققوا بطولة واحدة حتى على مستوى إفريقيا، تلك القارة المسكينة التي نعيش فيها، ومع ذلك لا نستطيع التفوق في منافستها.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على