قوّة لبنان تميّزت بوحدته وبحكمة رئيسه ( بقلم جورج عبيد )

أكثر من ٦ سنوات فى تيار

- جورج عبيد -ليست طائفة واحدة في لبنان مأزومة بل كلّ المكوّنات اللبنانية تعيش المأزوميّة بفعل التداعيات الناشئة من استقالة الرئيس سعد الحريري الكرهيّة من رئاسة الحكومة. ليس معنى الاستقالة منفصلاً بجوهره عن التطورات في المملكة العربيّة السعوديّة، وقد وصفها الكاتب جهاد الزين "بالتأسيسيّة"، وقد تكون تكوينيّة. ما يحسم منطق الارتباط ويدحض المقولات المعبّرة على أنّ الرئيس الحريري ضاق ذرعًا من التدخّل الإيرانيّ ودور حزب الله، أنّ استدعاءه بطريقة الخديعة، وإرغامه على تقديم الاستقالة لم يترابطا مع ما جرى في الداخل السعوديّ عن طريق الصدفة، بل تولّدا من مواجهة شاءها وليّ العهد محمّد بن سلمان على كلّ المستويات، وهي مواجهة مكشوفة بلا سقوف ولا حدود، ويجاهر بها إعلاميًّا تامر السبهان بفجاجة مرّة، ينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور.
تقول المعطيات الواضحة أمامنا بأنّ قواعد اللعبة قد تبدّلت، "فالأمير الصغير" طبقًا لرواية Le petit prince للكاتب الفرنسيّ Antoine de Saint-Exupéry يخوض حربًا وجوديّة مع "الأمراء الكبار"، لتكوين مملكة جديدة مع تأسيس حقبة مختلفة يتحكّم بها وبتفاصيلها السياسيّة والأمنية والمالية والنفطيّة والاجتماعية. يتوكّأ في كلّ هذا على العصا الأميركيّة المتوعدّة لإيران، بتسليم مطلق لإطلاقيتها على مستوى السياسيّة الكونيّة، ليقوم بالنيابة عن الأميركيين أنفسهم بمواجهتها. تلك هي السمة الأميركيّة في معظم المواجهات، أي أنها تدعم دولاً بوجه دول تختلف معها وتعتمد دبلوماسية الضباب، فتغلّف رؤيتها المضمرة بكلام معلن. مأساة محمد بن سلمان أنه لم يقرأ بعد بأن الأميركيين يبيعون "دواليب الهوى" كما مع الرحابنة، ويستولون على المال والنفط في الخليج العربيّ بشراكة مطلقة مع إسرائيل ليقودوا الخليج وبخاصّة السعوديّة إلى خريطة جديدة وفقًا لنظرية برنارد لويس التقسيميّة، وقد أوصى بالضرورة أن تقسّم السعوديّة وتطويع الفكر الوهابيّ فيها. المأساة الأخرى عند "الأمير الصغير"، أنّه لم يدرك بأنّ إسرائيل شريكة لعملية استلاب الثروة النفطية في الخليج العربيّ يتممه ويتمتمه مقال للكاتب الإسرائيليّ غاي بيتشر نشره سنة 2015 في صحيفة إيديعوت أحرونوت الإسرائيليّة: وقد وضعه تحت هذا العنوان: "لقد انتهى عصر النفط العربيّ وبدأ عصر العقل الإسرائيليّ". وفي هذا المشهد لم يفقه محمد بن سلمان بأنّ الأميركيين قاموا ببيع مسعود البرزاني ومعه الحلم بدولة كردية لروسيا واستطرادًا لسوريا، في حين حذّر السفير الأميركيّ السابق في دمشق روبرت فورد الأكراد وفي حديث لصحيفة الشرق الأوسط السعوديّة وبعدها لقناة الميادين، من المغالاة في تصديق السياسة الأميركية، فالإدارة الأميركية ستقوم ببيع الأكراد وتدمير الحلم بدولة لهم تقوم ما بين العراق وسوريا وتركيا، وقد كان السعوديون مؤيدين ومناضلين في سبيل نشوء تلك الدويلة، فهل يدرك محمد بن سلمان بأنّ الأميركيين يملكون القدرة على تجويف مسعاه التكوينيّ مع انتهاء مهلة نشوء هذه المرحلة بالمنظور الأميركيّ ومقاييسه؟
ستستعر المواجهة الداخلية وتضطرم نيرانها على ما يبدو، ذلك أن المعلومات الواردة تفيد، بأنّ من قام باعتقالهم جذورهم تتحرّك من جوف الأرض فتهتزّ وتتشقّق وتنفجر. الحراك في الرياض أمس دعمًا للأمير متعب وسواه يؤكّد اتجاه المملكة إلى المواجهة سيّما وأنّ محمد بن سلمان لا يملك مشروعًا مستقبليًّا واضحًا يحاكي فيه الناس بعقولها وآرائها، وهو يؤسّس عن طريق الزجر والعنف. هذا الرجل يخوض معركة تأسيسيّة داخلية بإزائية مطلقة مع معركة خارجية يخوضها مع إيران. في هذا الزمن المنظور يبدو بأنّ قدرته على المواجهة في سوريا واليمن والعراق باتت جدًّا محدودة، بل معدومة، سيّما أن اوراقه من الميدان وصولاً غلى طاولة التفاوض المرتقبة قد احترقت بفعل الغوغائيّة المتبعة في نمط المواجهة، ولم يعد يملك سوى الاستناد على الرؤية الأميركية التي تحفزه على المواجهة مع إيران. مع إغلاق أبواب المواجهة في معظم دول الإقليم الملتهب، بقي لبنان الساحة الممكن استهلاكها بنوعية منكشفة في خطاب تحشيديّ وتحفيزيّ وناريّ يقود المكونات إلى احتراب مقيت مذهبيّ وبنيويّ، بغية إضعاف حزب الله ويستند الأمير الصغير مع السبهان إلى الرؤية الإسرائيليّة لجعل لبنان مسرحًا لهذا الاحتراب. في الوقائع من المفيد الإشارة بأنّ السعوديين رضيوا بالتسوية الرئاسيّة التي أفضت إلى وصول العماد ميشال عون على مضض، وسلّموا بوصول الرئيس سعد الحريري إلى السلطة محاولين دغدغته قليلاً، من بعد تحطيمه ماليًّا مع إعلان إفلاس شركة سعودي أوجيه. لكن وللأمانة التاريخيّة يجدر الاعتراف بانّ الرئيس الحريري ومنذ لحظة تكليفه حتى تأليفه الحكومة ومع ممارسته للسلطة كرئيس للحكومة تصّرف بحكمة وودّ فائقين على الرغم من البون الشاسع في الرؤية الاستراتيجيّة بينه وبين حزب الله، وبينه وبين الرئيس العماد ميشال عون. هذا السلوك الحكيم والعميق ليس المشتهى عند السعوديين المعتادين على السلوك العقيم. فكان تامر السبهان يأتي لبنان ويأبى التعاطي مع رئيس الجمهورية بحجة دعمه لسلاح المقاومة بالمفهومين الواضحين عنده في خطاب القسم، وهما القتال الردعيّ على الحدود مع إسرائيل، والقتال الاستباقيّ على الحدود مع سوريا وصولاً إلى الداخل السوري.
وعلى الرغم من الانفتاح الرئاسة في لبنان على السعوديّة مع قيام رئيس الجمهورية بزيارته الأولى لها، غير أن المراقبين لمسوا فتورًا في الاستقبال. وقد كان العرف يقتضي بأن تكون الزيارة الأولى لسوريا. وعلى الرغم من ذلك لم يتعاطَ السعوديون مع الواقع اللبنانيّ من ضمن خصوصيّته القائمة على الفلسفة الميثاقية وعلى خطاب القسم وبيان الحكومة. فهم موغلون وبعد فشلهم في سوريا، وبعد دحض الإرهاب في فجر الجرود في سلسلة جبال لبنان الشرقيّة على تفخيخ لبنان وتفجيره من الداخل. حاول تامر السبهان تحريض رئيس الحكومة على رئيس الجمهورية، فلم يفلح. وبالفعل لقد تميّزت العلاقة ما بين الرئيسين بأنّها أكثر من وديّة وأكثر من ميثاقيّة بل علت إلى صداقة شخصيّة ومحبة متبادلة حرص رئيس الجمهورية على تبيانها للحريري كما الأخير بادله إياها. حاول السبهان حشد شخصيات معارضة بهدف تأليبها على الرئيس وعلى حزب الله، فكانت تتصاعد خطابات أحيانًا ما تلبث أن تطير كلماتها في الفضاء كالهباء الذي تذرّيه الريح عن وجه الأرض. أمام ذلك تصاعدت اللهجة السعوديّة تجاه لبنان إلى أن بلغت قمتها باستدعاء الرئيس سعد الحريري وإرغامه على الاستقالة. أخذ الرجل إلى الديوان الملكي حيث وضبّ بيان الاستقالة بلجهته القاسية والاحترابية وفرض عليه، محاولين بهذا البيان الضغط على لبنان وأخذ المجتمع اللبنانيّ إلى صدام عبثيّ. ومرّة جديدة تتغلّب الحكمة على الفتنة. ويعود ذلك إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي امتصّ تلك العبثيّة القتنويّة بعقله الراجح وبعد نظره الاستراتيجيّ، فلم يبت بالاستقالة كما ظنّ السبهان وسواه، فهي مدخل لفتنة مذهبية. جاء تحرّك الرئيس بالإزائيّة عينها مع تحرّك دار الفتوى مع المفتي عبد اللطيف دريان، وكلاهما تحركا بانسجام كبير مع خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، وقد كان ضنينًا على كرامة الرئيس الحريري في خطابه، ليظهر الرئيس برّي بأنه والرئيس عون غير مستعجلين على الاستشارات النيابية حتى تظهر ملابسات الاستقالة.
ما يمكن استخلاصه هنا بأنّ السلوك اللبنانيّ والاتصالات التي قام بها فخامة الرئيس على المستوى الداخليّ والعربيّ (مصر الأردن)، والأوروبيّ (فرنسا)، أجهضت المسعى السعوديّ المستغرب من غالبية اللبنانيين. ثمّة عملية انتقام من المملكة تجاه الحزب، وهي تأخذ منحى تصعيديًّا لأنّ وجود الحزب في سوريا ساهم بدحض الإرهاب بنسبة 85%. وفي الوقت نفسه تقود حربًا على الرئيس بسبب تبنيه لمفهوم القتالين الردعيّ والاستباقيّ وتأكيده على حيار المقاومة. المعطيات الواردة وبحسب مصار عالية المستوى بأن الرئيس الحريري لن يعود إلى لبنان في المدى المنظور، وقد رشح من خلال الاستشارات التي قام بها الرئيس بأن استمرار البلاد بلا رئيس للحكومة غير وارد على الإطلاق، ولهذا هو ساع وبحال لم يكشف الرئيس الملابسات أن يدعو إلى استشارات إلزامية لتشكيل الحكومة واعتبار الحكومة بحكم المستقيلة.
أخيرًا، يطرح السؤال التالي: ماذا لو عاد الرئيس الحريري إلى لبنان فهل سيعود عن استقالته وكيف سيبرر وضعه؟ لا شكّ أن سعدًا في وضع حرج للغاية، فقد ازدرت به السعودية ولم تتعاط معه كرئيس لحكومة لبنان، وضربت بالدستور اللبناني عرض الحائط وفرضت عليه الاستقالة من خارج البلاد وهذا غير مألوف لا في التاريخ اللبناني ولا في تاريخ العلاقات بين الدول وبخاصة العربيّة، حتّى في ظلّ الوصاية السورية لم يقدم أي من الرؤساء على تقديم استقالته من دمشق. ليس من برير سياسيّ وأخلاقي لما حدث مع الرئيس الحريري وهو أحرج للغاية أمام قاعدته. لكن وللأمانة فإنّ الرئيس الحريري لم يحصد إجماعًا في الدفاع عنه والوقوف إلى جانبه كما حصده من المسيحيين والمسلمين، وأبرز موقف يمكن أن يستند عليه في فهم ما حصل موقف رئيس الجمهورية والتيار الوطنيّ الحر وحزب الله.
في هذه الحمأة يطمئن مسؤول كبير اللبنانيين بأن لبنان على الرغم من ذلك بخير، ولا احد يجرؤ على ضربه، فهو في السلك عصيّ عن السقوط والانهيار وفي الحروب التي خيضت على أرضه ظلّ عصيًّا، وسيظلّ عصيًّا أكثر فأكثر لأن إرادة التوافق والعيش أقوى من كل تفرقة تفرض على اللبنانيين، والغلبة ستكون للخصوصية اللبنانية المتميزة بتماسكها في المحن وهي الفريدة من نوعها في عالم ممزّق ومتلاش حتى الموت. فإرادة الحياة اللبنانية أقوى من الموت العبثيّ.

شارك الخبر على