البيان الوزاري كرّس علاقة لبنان بالدول العربيّة من خلال مبدأ الناي بالنفس

أكثر من ٦ سنوات فى تيار

البيان الوزاري كرّس علاقة لبنان بالدول العربيّة من خلال مبدأ الناي بالنفسبقلم جورج عبيد
أبطل بيان مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 5-12-2017 مفاعيل الأزمة الحكومية الناشئة من جرّاء تقديم رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته في الرياض بفعل وضعه في الإقامة الجبريّة، وأعاد في متن البيان الذي قرأه الحريري نفسه الواقع السياسيّ إلى ما كان عليه قبل الرابع من شهر تشرين الثاني الفائت بتأكيد واضح على علاقة لبنان بالدول العربيّة ربطًا بمسألة النأي بالنفس عن صراع المحاور وعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة لللبلدان العربيّة.لا بدّ وبعد هذا البيان من توضيح بعض الغامضات والمكتومات المرتبطة بمسألة النأي بالنفس من جديد، فالعبارة في اللغة العربيّة تعني بلا التباس الابتعاد عن الآخرين وعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة للآخرين. ما هو غامض ومكتوم هو كيف يمكن للبنان أن يتعاطى مع سوريا الجارة الأقرب إليه وله معها ثلاثة أرباع الحدود، وكيف يمكن أن يتعاطى مع إسرائيل؟ وبالتالي، فهل ثمّة معيار واحد للتعاطي مع البلدان العربيّة أو أننا أمام معايير مختلفة في التعاطي، وهل النأي بالنفس يعنيّ لبنان أو بدوره يعني الآخرين فيرفعون أيديهم عن لبنان بمن فيهم السعودية التي قام وزير خارجيتها عادل الجبير منذ ثلاثة أيّام بمهاجمة لبنان واقتصاده ومصارفه واعتباره أنه في قبضة حزب الله، ألا يحتاج ردّ الجبير لتوضيح معالمه ومعانيه، سيّما أنّه اقتحم الخصوصيّة اللبنانيّة بلا هوادة وحاول النيل من هذا البلد والردّ عليه. لقد دعا البيان إلى عدم تدخّل لبنان في شؤون البلدان العربيّة لكنّه لم يدعُ البلدان العربيّة إلى عدم التدخّل في شؤونه فكلام الجبير انتهاك حقيقيّ لسيادة لبنان السياسية والاقتصادية والماليّة، وتحريض وتدخّل في شؤون البلد الداخليّة وهو مرفوض ومشجوب وممجوج؟يصحّ القول هنا بأنّ البيان وإن جاء بصيغة تسوويّة حتمتها الأزمة الأخيرة وانطلق نصّه بمساعٍ عربية وأوروبيّة ولبنانيّة، غير أنّه في المقابل افتقر إلى التعبير عن السيادة المطلقة بعدم الردّ الفعليّ ضمن البيان عينه على عادل الجبير وقد تطاول على الاقتصاد اللبنانيّ والحركة المصرفيّة في ربوع لبنان. ويمثّل الاقتصاد اللبناني بالحركة المصرفيّة والعمل المؤسساتيّ الصناعيّ والتجاريّ الشريان الحيويّ للبنان لنهوضه وبعث حياته وتحقيق تقدّمه وتأكيد توثبه. لقد كان بمقدور مجلس الوزراء مجتمعًا أن يستغّل صياغة هذا المبدأ وينطلق من هجوم الجبير ليدعو السعودية وسواها إلى عدم التدخّل في شؤون لبنان الداخليّة. هذا يدلّ عينًا إلى أنّ هذا المبدأ يفتقر سياسيًّا وأكاديميًّا إلى تعريف وتوصيف واقعيّ دقيق، وقد أكّد بيان مجلس الوزراء كم أنّ هذه المألفة (النأي بالنفس) مطّاطة وتحتمل التاويل المستند على الدلائل المعجمية والفقهية والسياسيّة. وعلى هذا، لا يزال مفهوم النأي نظريًّا غير قادر على أن يرسم أنظومة مستقلّة بالمطلق، تقي لبنان من أن يبقى ساحة لصراع الآخرين باللبنانيين. وتدلّ الوقائع في حقيقة الأمر بأن تلك المألفة غير مستقلّة عن واقعية التسوية الداخلية وإن تمثّلت لفظيًّا، ولن تترسّخ فعليًّا إلاّ عندما تبلغ سوريا نحو تسويتها بفعل تلازم التسويتين، ولكون التسوية اللبنانية اعتبرت من قبل المراقبين ميني-تسوية يتم اختبار فعاليتها وقدوتها وقدرتها على ترسيم الخريطة السياسيّة لتنتظم في سوريا، وبعد اكتمال عناصر الحسم الميدانيّ في القليل المتبقي.ما هو نافع وأساسيّ في الحقيقة، تأكيد مجلس الوزراء على هوية لبنان العربيّة، واستمرار تزاوجها العضويّ والمتكامل مع نهائيّة الكيان اللبنانيّ في انبثاثه التكوينيّ وانبعاثه الجذريّ وتجلياته الميثاقية والدستوريّة، بلا مسّ بخواص البلد وجوهره. فالخصوصيّة اللبنانية تجيء من هذا الخواص الصافي وتعبّر عنه حلالاً وتؤكّد تموضعه في مسرى الأدبيات السياسيّة ومتنها. الخصوصيّة اللبنانيّة بفلسفتها المكنونة في النظام السياسيّ بل المؤسسة له، قد أدخلت لبنان عهدًا جديدًا برئاسة فخامة الرئيس الجبل الأشمّ العماد ميشال عون وأدّت إلى حكومة وحدة وطنيّة برئاسة الرئيس سعد الحريري. وهذا العهد بحدّ ذاته مع رئيسه الرؤيويّ في بعد نظره وحكمته وامتزاج الحكمة بالحنكة والجرأة، وانغماسه بالعميق بالكرامة الوطنيّة، قد أعاد لتلك الفلسفة توازنها ولحمتها واستقرارها البنيويّ بعدما أصيبت بعطب كبير وندوب مختلفة كادت أن تشلّ البلد فيستمر تحت أيدي أوصياء ووكلاء. يقود هذا التأكيد الصادر عن مجلس الوزراء وعلى لسان رئيسه تحديدًا، إلى استنتاج بعيد عن أي تأويل أو اجتهاد، وهو أنّ علاقة اخوّة تربط لبنان بالدول العربيّة، جميع الدول العربيّة. يشي هذا الأمر باعتراف ضمنيّ بأن لبنان جزء من هذا المشرق العربيّ وقوامه فلسطين وسوريا والأردن والعراق، وجزء من أنظومة متكاملة تجمع المشرق عينه إلى الخليج العربيّ بلا انصهار عقيدي على الإطلاق. وإذا رمنا التحديد، فإن ذلك يشي بعدم انفصال لبنان عن سوريا وهي قلب المشرق العربيّ. وبتفصيل أدقّ فإنّ النأي بالنفس وعنوانه عدم إقحام لبنان ذاته في صراع المحاور يفترض في الوقت عينه، قيام أطيب العلاقات مع سوريا نظرًا التمازج الاجتماعيّ والجغرافيّ وللتاريخ المشترك الرابط بين البلدين، وقيام أطيب العلاقات مع دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربيّة السعوديّة حيث للبنان مع ملوكها وأمرائها علاقة وجد ومحبّة تاريخيّة من دون النسيان بأن العقل اللبنانيّ ساهم بعمران الخليج العربيّ ومدّ الجسور في ربوعه، وخبرات المهندسين ورجال الأعمال واضحة في إنشاء هذا التلاقح الحضاريّ البديع بين لبنان والخليج العربيّ.تحتاج مألفة النأي بالنفس إلى توازن شديد لتتمكّن من الحياة والرسوخ في السياق السياسيّ اللبنانيّ وبناء لحظة جديدة مشرفة على تكوين جديد ترسو وتتوضّح ملاحمه بعد الانتخابات النيابيّة. يتأتّى التوازن من قناعة بأنّ العلاقات مع الجميع جزء من تكوين لبنان وانفتاحه ورسالته، فلا يعزل نفسه عن هذا البلد أو ذاك ما خلا إسرئايل العدوّة والمعتدية دائمًا. يفترض بمن يعارض العلاقة مع سوريا بأن يدرك وبفهم دقيق بأنّه من غير المعقول أن يقطع لبنان نفسه جغرافيًّا عن سوريا ويرمي بنفسه في البحر. تلك هي الطبيعة التكوينيّة الجغرافية التي لا مفرّ منها ولا هروب عنها. التوازن في تجذير هذه المألفة يقوم في المقابل على عملية تجسير يقوم بها لبنان من سوريا إلى كل بلد عربيّ... وإلاّ فإنّ النأي بالنفس يتحوّل إلى ستر وحجاب ويؤول بفعل ذلك إلى وصاية غير مباشرة لا يرتضيها لبنان لنفسه.أهميّة البيان الوزاري أنّه بداءة، فيها تمرّد على محاولة صهر سعد الحريري في قالب واحد ومحدّد، وتحرّر من لحظة كادت أن تودي بلبنان إلى فتنة قاتلة لو لم يتلقفها رئيس يمتاز بعقله النورانيّ واتزانه الكبير. كلمة واحدة قالها نحن متساوون مع كل البلدان في العزّة والكرامة. تلك هي حقيقتنا ورسالتنا، والتساوي في الكرامة هو الجوهر الذي يجمعنا بالمحيط من ضمن فرادة لبنان ورسالته السامية والمضيئة.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على