شهاب الخشاب يكتب «الفهامة ٨٠».. «البيان»

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

إيه قصة البيان؟ من كام يوم، الفريق أحمد شفيق أعلن عن رغبته في الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة في بيان صحفي فاجأ الجميع وفجر توتر شديد بين العامة والخاصة. البيان في حد ذاته ما كانش ناري ولا كان يلفت النظر لولا السياق التاريخي الحالي. ثم فُجئنا ببيان ثاني بيقول إن الفريق اتمنع من السفر. الوضع مابقاش واضح والأمور اتلخبطت. الظاهر إن البيان الصحفي ماكانش بيان بالمعنى المعتاد، بمعنى الشيء اللي بيبيّن حقيقة الحال، وده المعنى الأقرب من التراث العربي وخاصةً في كتابات الأديب أبو عثمان الكناني البصري المشهور بالجاحظ.

الجاحظ عاش في عهد الخلفاء العباسيين في القرن الثامن والتاسع الميلادي، وعاصر نهضة الحضارة العربية الإسلامية وانتشار ثقافة الكتب والترجمات من اللغات الهندية والفارسية واليونانية اللي ساهمت في تطور الثقافة دي. الجاحظ -زي ناس ثانية في وقته ولسة في وقتنا- كان مقتنع إن العربي أكثر لغة فصيحة وبليغة دونًا عن أي لغة في العالم، وقرر يثبت قناعته في كتاب عن "البيان والتبيين". ارتباط البيان باللغة العربية أساسي في تصور الجاحظ، ومفهومه للبيان مؤسس في التراث العربي.

البيان في رأي الجاحظ نوع من الوضوح بنعرف منه المعنى الصح من المعنى الغلط، لأن المعنى الصح هو المعنى الواضح اللي بيكشف الحق والغلط هو الغامض اللي بيحجّب القلوب. البيان له خمسة فروع: اللفظ والإشارة والعقد والخط والنصبة. 

اللفظ هو الكلام الشفاهي اللي بننطقه، والجاحظ كتب مقاطع طويلة عريضة عن النطق الصحيح الواضح والنطق الغلط الغامض، اللي هو في الغالب نطق العرب بالمقارنة بنطق العجم. طبعًا ده مرتبط بقناعات الجاحظ عن اللغة العربية، ولكن مبدأ البحث عن اللفظ الواضح أساسي في تفكير الجاحظ عن البيان.

في حين إن اللفظ بيربط بين اللي بيتكلم واللي بيسمع، الإشارة بتربط بين اللي بيشاور واللي بيشوف. الإشارة هي غمزة العين مثلاً، حركة الإيد اللي بتنبّه أو بتحيّي، حركة الرأس اللي بتوافق أو بتنكر. الإشارة مش مسموعة ولا مقروءة، ولكن بتوضّح دلالات غامضة في الكلام، وبالتالي بتبقى أساسية في البيان. 

بعد اللفظ والإشارة، الجاحظ قال إن "العقد"، اللي هو ببساطة الحساب، بيوضّح وبيبيّن ظواهر الدنيا اللي إحنا عايشين فيها، زي في علم الفلك والهندسة مثلاً. حركة الأجسام الفلكية وقوانين البنا ماكانتش هتكون واضحة بالنسبة للبشر لولا الحساب، وبالتالي "العقد" برضه من أسس البيان. 

أما الخط، فهو اللي بيحفظ المعاني بعد ما يموت الكلام. الجاحظ بيستخدم كلمة "الخط" بمعنى الكتابة بشكل عام، ودور الخط أو الكتابة إنها تحفظ الدلالات المسموعة والمرئية للأجيال اللاحقة، لأن فيه معاني كثيرة واضحة في اللفظ والإشارة بتروح أول ما الناس اللي بتتكلم وبتتحرك مابتبقاش موجودة، سواء عشان البعد الجغرافي أو الزمني. 

أخيرًا، النصبة مالهاش علاقة لا بالمسموع ولا بالمرئي ولا بالمحسوب ولا بالمقروء، إنما بوضوح دلالات العالم الغايب جوة قلوب البشر. النصبة هي الوضع المبين اللي مانقدرش ننكره لوجود الظواهر والبواطن، وهي من مصادر المعرفة عن الله سبحانه وتعالى والكون اللي خلقه. في رؤية الجاحظ، نقدر نعتبر إن حركة السموات والأرض والرياح عبارة عن "نصبات" بالمعنى ده.

إذن البيان حسب الجاحظ مش مجرد وضوح الكلام والإشارة والحساب والكتابة بصفتهم أفعال دنيوية يومية، إنما هو عبارة عن وضوح الوجدان الإلهي عبر الأوضاع اللي بتكشفه. ربنا بيبيّن نفسه في الأشياء اللي خلقها، وبنفس المنطق، البيان واجب على البني آدم والأشياء اللي بينتجها، بما في ذلك كلامه وحركاته وحساباته وكتاباته. البيان في جميع الأحوال هو أساس وضوح الظواهر والبواطن، ولولاه هتفضل قلوب البشر في غموض تام. 

الفرق بين البيان عند الجاحظ والبيانات الصحفية الحالية مدهش، لأن حتى لما البيان الصحفي بيبقى واضح على المستوى اللغوي، وكلنا عارفين إن الفريق شفيق قرر يترشح ثم اتمنع من السفر، غرض البيان نفسه غامض ومابيهدفش لتبيين الحال. بالعكس، يبدو إن البيانات الصحفية بتحاول دايمًا تحجّب القلوب، سواء كانت قلوب المسؤولين المعنيين أو الشعب التايه، ومافيش حاجة هتبان طالما البيانات ماكشفتش الحجاب. 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على