كتابة السيرة الذاتية نجيب الريحاني المذكرات المجهولة

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

تقديم: شعبان يوسف
دار نشر بتانة

المذكرات أو السير الذاتية في الأدب العربي الحديث والمعاصر لا تزال شحيحة، على الرغم من جذورها في المتن الكتابي التاريخي، وذلك على الرغم من أن مسارات الحياة وفق التعبير الفرنسي، من أكثر الكتابات مقروئية، ويعود ذلك أن سير الأدباء والمثقفين والفلاسفة، والسياسيين، ونشطاء الحياة العامة ممن خبروا واستقرأوا تجارب الحياة وتفاعلاتها وصراعاتها وجروحها وآلامها، وقسوتها، وقبحها، ومعها تناقضاتها، ومساحات الحزن، وتألقات الفرح ولحظات البهجة والأمل والسعادة والمحبة.

السيرة الذاتية حاملة عديد الأبعاد والتجارب أيًا كانت بنيتها وشخوصها وأساليب سردها وتنوعها من القوة البلاغية والأسلوبية إلى الضعف أو الهشاشة البيانية. السيرة الذاتية هي كتابة الحياة القاسية والفاتنة، هي سردية ألوان الحياة وتدرجاتها وتحولاتها، هي سردية الوجع والقسوة والفقدان، كما أنها سردية الكفاح وعسر الحياة، والجسارة والجبن، والاندفاع والحذر، والسعي إلى القمة والهبوط إلى القاع، وما بينهما من مسارات الحياة المراوغة، من هنا تتنوع وتتعدد سير الكبار.. الكبار، وتفتح آفاق رحبة للتمثل والاستيعاب، والاستلهام. السيرة كسردية تعليم ونقل للرأسمال الخبراتي لكاتب السيرة الذاتية، وتتنوع من نص إلى آخر، حسب طبيعة المجال والخبرات والإنجاز، وعلى الرغم من جاذبية هذا النمط من السرديات الحياتية الحية، فإنها تتفاوت في قيمتها حسب تجارب حياة كتاب السير.

السؤال الأول: الذي نطرحه هنا: لماذا يجفل بعض الكتاب والروائيين والفلاسفة عن كتابة سردية حياتهم وعملهم وإنجازهم؟ والسؤال الثاني: لماذا تبدو بعض السير الذاتية العربية في بعض الأحيان عادية أو تافهة؟ وقلة هي التي يمكن اعتبارها سيرًا نابضة بالحياة وتدفقاتها، ومترعة بالحكمة؟ السؤال الثالث: لماذا تعد سير الحياة الغربية، وفي ثقافات إنسانية أخرى أكثر حيوية وأهمية وتأثيرًا ومقروئية وتمثلاً؟

يبدو لي أن فقر المكتبة العربية بالسرديات الذاتية يعود إلى عديد الأسباب، وعلى رأسها ما يلي:
1- ثقافة التحفظ التي تكبح بعض الكتاب والسياسيين عن تناول حياتهم ومساراتها وتجاربها، وإذا كتب بعضهم لا سيما السياسيين في بلد اللا سياسة، لأنهم يريدون تبرير بعض تصرفاتهم وسلوكهم السياسي في إطار الدولة، أو للرد على بعض ما أسند إليهم من أخطاء أو سلبيات في عملهم في بعض الأزمات أو العهود. ومثالها: مذكرات عمرو موسى، ومذكرات أحمد أبو الغيط، وقبلها مذكرات محمود رياض، وحافظ إسماعيل، أو مذكرات محمود الجيار أحد سكرتيري الرئيس جمال عبد الناصر، ومذكرات السادات يا ولدي هذا عمُك جمال، ومذكرات ناصر (كلمة صريحة). وقبلهم مذكرات سعد زغلول. المذكرات السياسية هي وثائق دفاعية عن الشخصية وسلوكها وقراءاتها الأحداث السياسية التي عاصروها، وهي سردية تأويلية في الغالب الأعم.

2- سطوة هيكل المحرمات الوضعية -الدين/ المذهب/ الجنس/ السياسة- التقاليد والعادات الاجتماعية المحافظة، والثقافة الذكورية المهيمنة، تشكل كوابح إزاء سرد الحياة الشخصية والعامة في حرية. لا شك أن ذلك يشكل إعاقة لكتابة السيرة الذاتية في جوانبها الذاتية بكل تلاوينها.

3- كبار الفلاسفة والأدباء بعضهم يجفُل عن الكتابة للحفاظ على صورتهم العامة وهيبتهم سواء لدى الجمهور والقراء والدولة والأسرة.. إلخ. بعضهم كتب سيرة ذاتية مثل الأستاذ الكبير توفيق الحكيم في بعض مراحل حياته، ولكن السيرة الأكثر جرأة تمثلت في الأيام للأستاذ العميد طه حسين، ومذكرات د. لويس عوض. في عالمنا العربي هناك عديد السير، لكنها ليست في جرأة السردية الفاتنة والصادمة For bread alone التي أملاها محمد شكري على بول بولز ثم نشرت، وبعدها كتبها شكري تحت اسم الخبز الحافي. ومذكرات عبد القادر الجنابي الشاعر العراقي (تربية عبد القادر الجنابي). هذه المذكرات تشكل أهم كتابات السيرة الذاتية العربية للكتاب.

4- السيرة الذاتية للممثلين والممثلات، على رأسها تأتي سيرة نجيب الريحاني وسيرة يوسف وهبي، وسير أخرى كسيرة فتوح نشاطي المخرج المسرحي والممثل الكبير.

أهمية سيرة نجيب الريحاني تتمثل في عديد من الجوانب نذكر منها ما يلي:
1- الدور التأسيسي لنجيب الريحاني للمسرح المصري والعربي، وبلورته، وذلك في إطار عمليات التشكل التاريخي لبدايات المسرح العربي على أيدي الآباء الأول في تمريناتهم الأولية على أيدي يعقوب صنوع، وسليم ومارون نقاش، وسلامة حجازي وعزيز عيد، وجورج أبيض، ومحمد تيمور، وعلي الكسار ويوسف وهبي. الريحاني يمثل انتقالا من المسرح الغنائي الأوبريت، والعروض الغنائية الراقصة، وأسس جورج أبيض المسرح الدرامي التمثيلي ثم يوسف وهبي وعلي الكسار ونجيب الريحاني.

رغم دور علي الكسار وقيامه بتقديم شخصية عثمان عبد الباسط، فإن نجيب الريحاني وشخصية كشكش بك ومسرح نجيب الريحاني، يمكن أن نطلق عليها بدايات الكوميديا المصرية ذات بعض من الجذور المحلية. أضفى الريحاني مشروعية على الكوميديا في المسرح المصري. 
2- الريحاني رغم جذوره الكردية/ العراقية إلا أنه يمثل أحد نماذج الخصوصية الثقافية المصرية وقدرتها على استيعاب الأفكار والأشخاص، وتمصيرهم بحيث يتحولون إلى مصريين أفحاح بقطع النظر عن أصولهم العرقية أو القومية أو الثقافية، ومن ناحية أخرى هو تعبير عن الانفتاح الثقافي المتعدد للحياة المصرية في المرحلة شبه الليبرالية.
3- الأداء الكوميدي الساخر للريحاني مترع ببعض التفلسف من الحياة وتناقضاتها وقدرته على توليد الضحكات من المواقف المتصادمة والمتفجرة، وقربه من أوضاع الحياة.

أهمية هذا الكتاب الذي أعده وقدم له الكاتب والشاعر شعبان يوسف يتمثل في أنه يقدم النص الأصلي لمذكرات نجيب الريحاني التي تعرضت لتشويهات عديدة بعد وفاته، ولا يخفى هنا على أحد طبيعة المنافسات الضارية بين كبار الممثلين في تاريخنا المسرحي والسينمائي لا سيما بين نجيب الريحاني ويوسف وهبي. كان الريحاني أقرب إلى الوجدان العام المصري بإشاعته الضحكات الساخرة في مسرحياته المختلفة – الكتاب اشتمل على مقدمة متميزة ومدققة قام بها شعبان يوسف الذي بات يمثل أحد مؤرخي الحياة الثقافية المصرية، ويتسم عمله بالدأب والبحث والتقصي، والأهم إنارة مساحات مظلمة أو معتمة من حياتنا الثقافية والفكرية حول بعض الشخصيات، والكاتبات، والأحداث والمعارك الفكرية، فله الثناء العاطر على هذا العمل، وما يقدمه من أعمال في إطار هذا الدور. 

من ناحية أخرى: الكتاب احتوى على المقدمة ونص المذكرات ومعهم مقالات بالغة الأهمية كتبت عن الريحاني ودوره بعضها أثنى على دوره وأعماله، وقلة قليلة انتقدته كما في مثال أستاذنا يحيى حقي، ومقال للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور.

أهمية المذكرات أنها ترد في نصها الأصلي على عملية التزوير والإضافات التي تمت بعد وفاته عام 1949، والتي قدمت الممثل الكبير بوصفه مهرجًا أو شخصية هزلية، ومن ثم يختلف عن السيرة التي نشرت في كتاب الهلال 1949، والتي نشرت من قبل في مجلة الكواكب 1952، ومن الشيق ملاحظة أن من كتبوا عن الريحاني لم يعتمدوا على السيرة الأساسية إلا د. علي الراعي في مؤلفه (فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني).

وما نشره د. محمد كامل القليوبي للمذكرات كاملة التي عثر عليها وأشرف على ترميمها وحققها في كتاب صدر منذ سنوات في إطار مهرجان القاهرة الدولي للسينما، إلا أنه نفد، ولم يثر اهتمام بعض المثقفين لعدم انتشاره، ونفاد هذه الطبعة التي وزعت مجانًا على الصحفيين والإعلاميين ونقاد السينما.

إن مقدمة شعبان يوسف اتسمت بسلاسة الأسلوب ورشاقته وتمثل إطلالة بانورامية على الحياة المسرحية منذ بدايات القرن العشرين. وقام مقدم المذكرات في هذه الطبعة بنقد المذكرات التي نشرتها بعض المجلات ودور النشر، التي انطوت على تحريفات وحذف للنص الأصلي، وأهم ما ذكره ما يلي:
1- الخيال المفرط لمحرر المذكرات.
2- تقديم شخصية الريحاني من خلال النكات والاستظراف.
3- أسلوبها يختلف عن أسلوب الريحاني في كتابة المقالات.
4- إبراز الريحاني ككاره لفن الكوميديا وساخر من نفسه.
5- ثمة إضافات على المذكرات الأصلية بعد وفاة الريحاني، وكأنه لا يزال يعيش أثناء كتابة المذكرات المعاد صياغة أصلها والتي تضمنت حذف وإضافات بعد وفاته. (ص 27).
6- إظهار الريحاني في مغامراته العاطفية كخائن لأصدقائه ومعارفه في غراميات تافهة.
7- استبعاد "حكايات" ذكرت في المذكرات الأصلية عن يوسف وهبي وبديعة مصابني ومحمد عبد الوهاب.
8- غياب "حكايات" الريحاني مع الملك فاروق، وملك الأردن.
9- حذف أحاديث الريحاني ومعاركه وصداماته مع الرقابة والبوليس هذا بعض ما ذكر مقدم المذكرات من نقد للمذكرات التي شاعت بعد وفاة نجيب الريحاني.

لا يزال نجيب الريجاني يحتاج إلى المزيد من الدرس والتحليل الموضوعي لدوره في المسرح المصري، رغم الدراسة الهامة التي صدرت للدكتورة ليلى أبو سيف منذ عقود عن دار المعارف.
وتحتاج مذكراته إلى عديد من الدراسات الأخرى، ناهيك عن البحث عن أصول مسرحياته الفرنسية، وعملية تمصيرها، والربط بين أداء الريحاني وجذور المسرح العربي في القره قوز..... إلخ.

شارك الخبر على