هل يأتي يوم ويدخل الرئيس الحريري دمشق؟

أكثر من ٦ سنوات فى تيار

بقلم جورج عبيد -

 ثمّة إشكالية مكنونة في السياق السياسيّ اللبنانيّ عنوانها علاقة رئيس الحكومة سعد الحريري بالدولة السوريّة وعلى رأسها الرئيس بشار الأسد يفترض بالمناقشين والقارئين الإطلالة عليها والإضاءة على معانيها واستظهار ضرورتها في منطقة غير وسطيّة ولا رماديّة بل متجهة إلى تسوية جوهريّة ودقيقة بدأ الإعداد لها ينطلق على قدم وساق.
في الجوهر، التسوية السوريّة في طبيعتها ووظيفتها غير منفصلة البتّة عن التسوية اللبنانية ومن المعروف بأنّ ثمّة جدليّة قد سادت غير مرة العلاقة بين لبنان والمحيط، فاعتبر المحللون على ضوئها، بأنّ لبنان المتأجج والمتفجّر والمحتدم يخدم سلام المنطقة وهدوءها، والمنطقة المتأججة والمحتدمة والمحتربة تخدم السلام اللبناني وتبقي البلد في أمن وهدوء. غير أنّ مسار الأمور منذ سنة 2003 أظهر التلازم والتماهي بل التجانس في التفجير بين لبنان والمنطقة بدءًا من الدخول الأميركيّ إلى العراق وتفجيره مذهبيًا وإتنيًّا، مرورًا بلبنان مع زلزال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط من سنة 2005، وتبيّن بأنّ هذا الاغتيال-الزالزال ممدود من العراق (هل ننسى مصطلح العرقنة وقد ساد طويلاً) ليشطر لبنان مذهبيًّا كما شطر العراق الدخول الأميركيّ مذهبيًّا، واستكملت مسيرة التفجير في تموز من سنة 2006 أي بعد سنة وخمسة أشهر من اغتيال الرئيس رفيق الحريري يالحرب الإسرائيليّة على لبنان، وراهن كثيرون على القدرة الإسرائيليّة في سحق حزب الله، ولم تفلح القدرة وسقط الرهان،
حتى بدونا في أيار من من سنة 2008 أمام مشهد محتدم داخليًّا، من دون أن ننسى محاولة التكفيريين لاقتحام الأشرفية داخليًّا فيما عرف بالاحتجاج على سفارة النروج. في سنة 2008 بدا لبنان امام مشهد احتراب بفعل محاولة أخذ لبنان إلى مشهد الفوضى الخلاّقة، فجاء اتفاق الدوحة ورسّخ تسوية أتت بالعماد ميشال سليمان رئيسً للجمهورية.
هذه الأحداث لم تكن سوى التوطئة والتهيئة لشطر سوريا كما العراق وتحويل المنطقة العربية إلى هذه الفوضى. أدرك العاهل السعوديّ الراحل المغفور له الملك عبدالله بن عبد العزيز الذي كان على معرفة عميقة بالخصوصيات المشرقية ما بين لبنان وسوريا، ماذا عنى اغتيال رفيق الحريري وما هو المحتوى المعشّش فيه والمعدّ لينفجر في المثلّث اللبنانيّ-السوريّ-العراقيّ وفي تلك الخصوصيات المكوّنة لهذا المثلّث وتأثيرها على الأردن والقضيّة الفلسطينيّة. فما كان منه سوى أن جاء إلى دمشق واصطحب الرئيس بشار الأسد إلى لبنان وكانت قمّة ثلاثيّة في القصر الجمهوريّ في بعبدا، وقبل تلك الزيارة أوعز العاهل السعوديّ إلى الرئيس سعد الحريري لكي يقوم بخطوة تجاه دمشق ويبرّئ بشار الأسد من دم أبيه بحديث إلى جريدة الشرق الأوسط وذهب بعد ذلك إلى قصر المهاجرين وجال بصحبة الرئيس الأسد ليلاً في شوارع دمشق وكان الزمن رمضانيًّا. غاب العاهل السعوديّ عبدالله عن المشهد المعدّ بفعل مرضه ومن ثمّ وفاته لتسيطر مجموعة راديكالية كانت معدّة أميركيًّا وإسرائيليًّا وقادت إلى جانب قطر وتركيا حربًا في سوريا بغية إسقاط بشار الأسد، في لحظة بدا المشهد في العراق مأساويًّا ومصر وتونس وليبيا تمرّ باهتزاز كبير قضى على مرحلة من التاريخ، فسقط معمر القذافي وزين العابدين أمسى في غربة سحيقة وحسني مبارك خلف القضبان وفي وادي النسيان وظن كثيرون بأنّ أحمد مرسي خليفة جديدة ليسقط حكمه بقوة الجيش ووحدة المصريين وأمسى قائد الجيش عبد الفتاح السيسي رئيسًا لمصر. لاحظ الناس سقوط تلك الأنظمة، ولاخظوا احتراق سوريا بدءًا من سنة 2011 في حجيم حرب فيها وعليها بغية إسقاط النظام، الجميع سقطوا وبشار الأسد لم يسقط.
في تلك اللحظة كان لبنان بدوره يتلقّى إشارات الاحتراب بفعل اندساس الخلايا الإرهابية في بطنه وانسداد الآفاق فمر منذ سنة 2011 حتى سنة 2016 بمجموعة حروب في طرابلس وعكار وصيدا وعرسال، وارتجت الضاحية الجنوبية بانفجارات وعمليات انتحارية حصدت شهداء، وكان العهد متورّطًا والرئيس سعد الحريري جزء من أنظومة الفوضى حتى أدرك مخاطرها بالفعل لا بالقول وبدأ ينسحب منها تدريجيًّا وقمة الانسحاب تجلّت لحظة قبوله بالتسوية الداخلية القائمة على وصول العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية ووصوله إلى رئاسة الحكومة. والملاحظ بأنّ سعدًا ومنذ 2016 قد بدأ يتبدّل خطابه تجاه حزب الله ودوره في لبنان وراعى حوارًا ما بين تيار المستقبل وبينه.
الطامة الكبرى استمرار العلاقة على عبثيتها بين الرئيس سعد الحريري والرئيس السوري بشار الأسد. الطرفان يعيشان احتدامًا كبيرًا تأسّس على عداوة عقيديّة ومذهبيًّا كان الحريري مأخوذًا إليها بسبب التشويش والتعليب المتداخلة في الذاكرتين المتورمتين والمتلاطمتين بفعل تراكم الأحداث والمساهمات القصوى في تجنيدها وتبويبها وانقياد كثيرين نحوها. المحطّة الإيجابيّة الوحيدة المتجليّة في هذا الفاصل الزمنيّ ما أوردناه عن دور المغفور له الملك عبدالله بن عبد العزيز في محاولة حماية لبنان وسوريا معًا من تيارات تأخذهما إلى التباعد والتنافر وإلى احتراب داخليّ في كلا البلدين وتكامل التفجيرات فيما بينها. وبرأيي خبراء سياسيين بأنّه كان على سعد الحريري أن يدرك منذ ذلك الوقت أي منذ مبادرة الملك عبد الله بأنّ مفهوم لبنان أوّلاً يفترض عدم استدخال أزمة العراق في لبنان وسوريا، بل حماية العراق من لبنان وسوريا معًا، وبسط هذا المفهوم بإقامة علاقة متوازنة مع الشام بعد خروجها من لبنان سنة 2005، بالصيغة عينها التي أسسها العماد ميشال عون آنذاك، وقد كان والده على حقّ حين استبقى على الحدود الدنيا من العلاقة مع سوريا. ويطرح هؤلاء الخبراء سؤالاً منهجيَّا على الرئيس سعد الحريري الملكوم اليوم من تصرفات السعوديين الأخيرة، أين انتصرت السعودية في خياراتها سواء في سوريا أو العراق أو اليمن؟ فالنأي بالنفس لا يفترض أن يعتبر وزير الخارجية السعوديّة عادل الجبير بأن الوضع في لبنان مأساويّ لأنه بات في قبضة حزب الله، وقد بدا بأنّ هذا الكلام يمسّ بالحريري، نفسه. ويعتقد بعض المراقبين بأنّ سعدًا سيحتاج حتمًا لوسائل ووسائط للشروع في تنقية الذاكرة المتورمة بينه وبين سوريا، فعلاقته المميزة مع الرئيس العماد ميشال عون ستساعده حتمًا على إيجاد نمطية جديدة وجديّة تجاه دمشق، والحوار مع حزب الله القابل للتكامل الموضوعيّ في السياق الوطنيّ سيصبّ في الهدف عينه، ويتلمّس كثيرون دورًا فرنسيًّا وروسيًّا يفعّل العلاقة بينه وبين سوريا، كما أن اللقاء المرتقب بين الرئيسين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان برعاية الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في سوتشي على أغلب الظن سيريح الرئيس الحريري أكثر وسيدفعه باتجاه القيام بقراءة نقديّة لسياق الأحداث منذ 2011 ليستخلص العبر، وبوابو دمشق لن تغلق بوجهه وهو مستند على جبارين كبيرين صديقين لسوريا هما رئيس الجمهورية وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، ومستند على إرث أبيه في علاقته مع الرئيس حافظ الأسد.
خلال زيارته لموسكو وباريس، نصح بوتين ولافروف وماكرون سعد الحريري بإبداء مزيد من الطراوة تجاه سوريا، ليس من مصلحته الغوص في التشنج السعوديّ، والعلاقة مع سوريا ستكون متوازنة وليست تبعيّة. ذلك أن مصر وسوريا سيكونان رافعتين جوهرتين في المراحل المقبلة لعروبة سقطت ولا بدّ أن تحيا من جديد لتبقة من خلالها فلسطين حيّة.
هل سيتجه سعد الحريري إلى مصالحة بشار الأسد، وهل ثمّة مصلحة مشتركة لترسيخها؟ الجواب على هذا السؤال نعم، سيّما أن التسوية في سوريا لن تنأى وبالأحرى لا تستطيع أن تنأى بالأسد خارجًا عنها، فهو جزء منها بل مدماكها في المحطات الآتية، والواقعية السياسيّة تفترض من الجميع وعلى رأسهم سعد الحريري التعامل مع هذا الواقع كمألفة أساسيّة ومعطى راسخ، معظم الرؤساء العرب لفظهم الربيع العربيّ وقد أمسى خريفًا، وفي أميركا تغيّرت عهود كان آخرها عهد أوباما وبقي الأسد في عرينه، والأمر عينه ينطبق على فرنسا. لن يكون بمقدار الرئيس الحريري سوى التعاطي بإيجابية طيبة والإيجابية حتمَا لا تبادل سوى بالإيجابية. التسوية السورية ستستند إلى التسوية اللبنانية. فكما أن التفجير كان متجانسًا بين لبنان وسوريا والمنطقة فالتسوية بدورها ستعبّر عن التجانس بالهدف والرؤى في ترسيخ حل سياسيّ جذريّ. لن يعصم الحريري تفسه عن هذا التجانس ومن بابه سيكون له سلوكيات متوثّبة وداعمة ومنتجة تراعي مصلحة لبنان وعلاقته بمحيطه العربيّ، وهو جزء متكامل معه.

شارك الخبر على