«النورس جوناثان».. رواية تمجد «الخيال»

٦ أشهر فى الإتحاد

إيهاب الملاح
- 1 -ثمة أعمالٌ في تاريخ الإبداع الروائي اكتسبت شهرتها وخلودها من طرحها «سؤالها الإنساني البسيط»، سؤال الدهشة والبراءة والتأمل، سؤال البحث عن الحرية، والانعتاق من كل وأي قيد، سؤال المخالفة والمغايرة والخروج عن المقرر والمألوف.. وغالباً ما تميل مثل هذه النصوص إلى المعالجة الرمزية أو ما يسمى بالرواية الأليجورية، أو رواية التمثيل الكنائي، كما ترجمها بعض النقاد إلى اللغة العربية.يقول النقاد، إن تقنيات الرواية الأليجورية، أو رواية «التمثيل الكنائي» ذات اللغة الأيسوبية (نسبة إلى أيسوب الحكيم في «خرافات أيسوب») التي تنطق الخطاب المقموع أو المسكوت عنه. أداتها في ذلك أقنعة الشخصيات «الرمزية»، وتمثيلات الأحداث الخيالية/ التخييلية، وتوريات المواقف الموازية، فالرواية الأليجورية Allegorical novel ببساطة هي الرواية التي تقول شيئاً ظاهراً وتعني غيره تماماً (في أبسط تعريفاتها).وفي «الرواية الأليجورية» تتحول أحداثها وشخصياتها إلى معادل رمزي مباشر لأفكار كاتبها، أو إشارة غير مباشرة لنماذج أو مواقف في العالم الذي تتولد منه، معتمدة في بناء أحداثها وشخصياتها على ما يشبه «الاستعارة المكنية التي يراد بها لازم معناها وليس ظاهر معناها».ولأنها رواية لا تستطيع أن تشير إلى موضوعها إشارة مباشرة بسبب حواجز الرقابة الصارمة أو جرأة الأطروحات الفكرية والفلسفية التي تغامر بخوضها، فإنها تراوغ الجهات التي تناوشها.هكذا نقرأ باستمتاع كبير حتى اللحظة رواية مثل «الأمير الصغير»، للكاتب الفرنسي أنطوان دو إكسوبري، نستمتع بها ونندهش معها ونقرأها بمستوياتها المتعددة، من مجرد الحكاية أو الحدوتة الإطار وصولاً إلى أكثر التفسيرات تركيبا وتعقيداً. أو رواية أخرى مثل «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل، وما تثيره في النفس من بهجة وألم وتفكير وتأمل!- 2 -ضمن هذه الدائرة، أيضاً، يمكننا أن نقرأ بدهشة واستمتاع هذه النوفيلا الساحرة «النورس جوناثان ليفنجستون» للكاتب الأميركي المعاصر ريتشارد باخ (ترجمها إلى العربية محمد عبد النبي، وصدرت عن دار الكرمة للنشر والتوزيع بالقاهرة). نوفيلا «النورس جوناثان ليفنجستون» تقع في 100 صفحة فقط من القطع الصغير، لكنها بفعل روعة وبهاء الإبداع والفن ستصير «رقية»، «تعويذة»، «نصاً سحرياً»، ستكون قادرة على أن تنتزعك من أي شيء آخر، ستتفرغ فقط لقراءة السطور ومتابعة ذلك النورس [الحرّ] الباحث عن الحياة، مغزى الحياة.تدور الرواية حول نورس مدهش اسمه «جوناثان سويفت»، لا يقنع أبداً بأن يكون «نورساً عادياً» مثل غيره من النوارس في السرب الذي نشأ وعاش وتربى فيه. «جوناثان» مشغول بالطيران حد الهوس، لا يريد أن يطير بذات الطريقة التي يطير بها بقية السرب، ولا يريد أن يطير للغاية التي يطير من أجلها السرب وهي «الطعام» والبحث عن بقايا الخبز والفتات الذي يلقيه صيادو المراكب لاجتذاب الأسماك وصيدها!يريد جوناثان، أن يحلق هناك في البعيد، في الأعالي، أن يصل إلى ما وراء أبعد نقطة وصل إليها نورس قبله، يبحث عن الطريقة التي تمكنه من التحليق عالياً ومنخفضاً، وبأساليب جديدة غير تلك التي ينشأ عليها بقية طيور السرب.ينجح جوناثان في أن يطير عالياً ويكتشف ما لم يسبقه إليه طائر من النوارس، ما تمناه ذات مرَّة للسرب كله، ناله الآن بمفرده وحده، تعلم أن يطير، ولم يكن آسفاً على الثمن الذي دفعه.اكتشف «جوناثان» أن الضجر والخوف والغضب هي الأسباب التي تقصِّر أعمار النوارس، وحينما تبددت تلك الأسباب من نفسه وخاطره عاش حياة مديدة وسعيدة حقّاً. لكن بدلاً من أن يحظى بالتكريم والتحية والتقدير، يفاجأ بأنه «منبوذ» ومحكوم عليه بالنفي. يعيش وحيداً منفرداً في عزلة، حتى يسطع بداخله نور، وحي أو إلهام باطني (رمزت له الرواية بظهور نورسين نورانيين يمتلكان نفس المهارات التي تدرب عليها ووصل إليها)، يعود إلى موطنه، إلى نوارس سربه، يعلمهم وينشر النور والمعرفة الخالصة، خلاصة تجربته الفريدة، يلقي مواعظه، يقول لهم:«إن جسدك كله، من طرف الجناح إلى طرف الجناح، ليس إلا أفكارك ذاتها، وقد اتخذت شكلاً يمكنك أن تراه. اكسر قيود أفكارك، وسوف تكسر قيود جسدك كذلك». سيختفي «جوناثان» ويتحول إلى «العظيم» و«المبجل».- 3 -أصبح النورس «جوناثان ليفنجنستون» أيقونة ومعادلاً رمزياً لكل إنسان ذي تفكير فلسفي، متسائل، مجرب، لا يقنع بالإجابات التقليدية، ولا بما وجد نفسه ووالديه عليه، فالسؤال وحده، والرغبة الحارقة في التجاوز والاكتشاف، والتحليق في سماوات المعرفة هي الغاية الأسمى له، حتى لو كلفه ذلك مشقة وعنتا وأذى. ببساطة، أن نكون مثل «جوناثان» نبغي الارتفاع عن السرب ونكتشف ما لم يكتشفه أحد من قبل.إن قصة «جوناثان ليفنجستون» ليست فقط قصة طائر تغلّب على حدود طبيعته، وعلى مجتمعه، ليصل إلى المراتب العليا من المعرفة، بل هي دليل على حاجتنا القصوى إلى «الخيال» كي نتصور المستقبل الذي لم يوجد بعد، ونستشرفه وتعمل على الإعداد له ونتهيأ لاستقباله، في الوقت الذي نعيد فيه قراءة الماضي لا كما كان عليه بل كما يجب أن يكون. وهذا بالضبط ما تصوره هذه الأمثولة المجازية الرائعة.- 4 -مؤلف هذه الرواية البديعة، هو الكاتب والروائي الأميركي ريتشارد باخ (من مواليد العام 1936)، عرف شهرة عالمية عند نشر هذه الرواية، فباعت ملايين النسخ، وترجمت لعشرات اللغات، وتصدرت قوائم الكتب الأكثر مبيعاً لسنوات وأدرجت في قائمة أفضل 50 كتاباً كلاسيكياً روحانياً.إن قصة «جوناثان ليفنجستون» ليست فقط قصة نورس تغلّب على حدود طبيعته، وعلى مجتمعه، ليصل إلى المراتب العليا من المعرفة، وليعود بها إلى أقرانه فينشر ما عرفه، بل هي أيضاً دليل عملي على أن أفضل بل أروع شيء فيما يتعلق بالكتابة هو أنكَ تستطيع أن تتقمص الشخصيات التي لا تمت إليك بصلة، غالباً تكتشف أشياء عن نفسك لم تكنْ تعرفها من قبل.  نحن في حاجة إلى الخيال كي نتصور المستقبل الذي لم يوجد بعد، وكي نعيد قراءة الماضي ليس كما كان عليه بل كما يجب أن يكون. وهذا بالضبط ما ينطبق على رواية «النورس جوناثان سويفت».

شارك الخبر على