«اتنين كابتشينو ياعم محمود»

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

في محل البن البرازيلي بالإسكندرية فى شارع سعد زغلول، يعمل عم محمود، لا أعرف بالضبط تاريخ حضوره والتحاقه بالعمل، ومن أي مكان جاء، ولكن يظهر على تقاطيع وجهه الهادئة والمستكينة، وصبره الطويل أثناء وقوفه لساعات طوال، وصمته الأكثر صلادة من أي شيء؛ هذا المكان الآخر الذي رحل عنه، والذي منحه الصلادة والصبر والاستكانة معا، سواء كان من الصعيد أو النوبة أو إحدى قرى دلتا مصر. مع تقدمه فى السن، ظهرت رعشة خفيفة في يده لم تنل منه أو من توهجه أثناء العمل، ظل يؤدي عمله بنشاط ملحوظ خاصة فى ساعة الذروة الصباحية التى يمتلئ فيها المكان ويتحلق الزبائن على المناضد الدائرية المرتفعة والمثبتة في الأرضية، أو في زوايا، وحولهم دوائر من الدخان.

يقف بقوة أمام ماكينة القهوة، هذا الصراع اليومي الذي يخوضه، حتى تصادقا، هو والماكينة، وأصبحت طائعة أمامه، وأصبح عملاقا أمامها، بالرغم من قصره وضآله حجمه، وربما كذلك تتعاطف معه وتخفي أى خطأ قد ينتح عن هذه الهزة الخفيفة في يده.

بمجرد أن يأخذ الطلبات المدونة بكتابات صغيرة، يضطر معها بأن يقفل عينه قليلا لقراءتها؛ ليبدأ فى العمل. في تلك اللحظة أكثر من يد تتخلق له، ومن خلفه صف ثان من الصبيان يخدِّمون عليه ويلبون طلباته. يضع قليلا من البن، داخل الفلتر المعدني، ويساوي حافة البن مع سطح الفلتر، ثم يكبسه في الماكينة ويسحبه إلى جهة اليمن بقوة، كأنه يربط فرامل ترام قديم، ليسمع صوت التكَّة التى تؤكد له أن الفلتر قد تعشَّق فى المكان الصحيح. ثم يبدا فى دفق الماء الساخن بكبسة زر، واستقبال القهوة فى الفناجين البيضاء. أثناء هذه العملية يقوم بدلق قليل من كارتونة اللبن، فى إناء معدنى "استنليس ستيل" ويضعه تحت أحد أنابيب البخار في الماكينة، التي تحوله بدورها  إلى رغاوي بيضاء يضعها فى النهاية بحرفية على قمة فنجان القهوة الأسود.

أكثر ما يميز تلك الأماكن، بجانب الرائحة، هو صوت تدفق البخار الساخن، كأنك تكبس زرا بداخلك فتحرر هذا البخار المكبوت. تسبقنا الآلة أحيانا في تجسيد صوت مايجري بداخلنا، أو أصبحنا نحن نتشبه بها، ونحاكيها. 

كان محل" البن البرازيلي" مكانا مركزيا في السبعينيات، له ذائقة نخبوية قليلا، عندما كان الكابتشينو والقهوة الأسبريسو والشكولاتة المثلجة غير منتشرين بين كل الطبقات كما هو الآن. عندما كنت أسير أمامه ألمح هذه المجموعة من المنتخَبين يقفون بفنجان القهوة  والسيجارة، على بابه، وأمام جمهور المارة، يحتسون مشروبهم.

كان هذا المكان واحدا من عدة أماكن أعبر بها في رحلة يوم عيد ميلادي. سواء كنت بمفردي أو مع والدي. الذى صحبنى فى إحداها. السينما، مطعم "محمد أحمد"، حلواني "ديليس"، ثم البن البرازيلي فى نهاية اليوم لتناول مشروب الشكولاتة المثلجة. كانت هناك ماكينة عملاقة لطحن البن لها سيور جلدية يضعونها داخل المحل، ليحضر الزبائن كواليس  خطوات تحضير هذا المشروب السحري، وعلى السقف نحتت خريطة العالم مجسمة ويظهر منها "البرازيل".

كان هناك مكان آخر يتم فيه الاستعراض، وهو الواجهة الزجاجية لفندق "المتروبوليتان" القديم، وترتفع عن الشارع مسافة مترين أو اكثر قليلا؛ حيث يجلس خلفها فيها النزلاء. أعبر بهؤلاء النجوم من المصريين أو الأجانب، وهم يستعرضون نجوميتهم خلف هذه الفاترينة الزجاجية، يجلسون على فوتيهات يتأملون المارة أو يتحدثون مع بعضهم البعض، أو ساهمين. كان هناك إغراء بأن أتأملهم، بأن هناك شيئا ثمينا ونادرا وغير متوقع سأصادفه وراء هذه الفاترينة الزجاجية. فاترينة زجاجية أخرى سأراها بعد العديد من الأعوام فى هولندا، فى ارتفاع مشابه أو أكثر قليلا،  تقف وراءها الفتيات اللاتي يعرضن أجسادهن من أجل المتعة.

أحب أن أتفرج على عم محمود وهو يؤدي عمله ويقود فريقه، لا أعتقد أن له زبونا مفضلا عن آخر، يتعامل مع الجميع بنفس درجة الاحترام والود. غالبا ما أراه صباح الجمعة قبل الصلاة. غالبا نكرر، أنا وزوجتي "طقس" تناول الكابتشينو كلما مررنا بمحطة الرمل."اتنين كابتشينو ياعم محمود". لا أفقد المتعة الآن من تكرار أي فعل معين، كأني أكرر شُربي الماء، ولا أشعر بأنه سيسجنني بداخله، كما كنت أشعر من قبل. في كل مرة أكرر فيها أي فعل، حتى  ولو فقدت اندهاش وحرارة المرات الأولى، أعيد عزف تلك المقطوعة المرتجلة التي أتدرب عليها طوال حياتي، أكرر شُربي للماء بلا سأم. ربما أستقبل العالم والأفعال المكررة بداخله بلا اندهاش، ولكن برغبة في تجويد عزف هذه المقطوعة.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على