كلنا شيرين عبد الوهاب فلماذا تغضبكم؟!

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

في نهاية الخمسينيات وبالصدفة البحتة اكتشف الشاعر والصحفي عبد الرحمن الخميسي فتاة صغيرة يقول عنها في مذكراته: "لم أكن أعلم أن جدائل شعرها المنسكبة تختزن وراءها تلك اللؤلؤة النادرة المثال"، لكنه كصياد لآلئ محترف يدرك جيدا أن اللؤلؤة حتى تلمع وتتحول من مجرد حجر إلى جوهرة تحتاج إلى من يصقلها، لذلك فقد بدأ بإسناد مهمة تعليمها القراءة والكتابة التي حالت ظروفها دون اكتسابها إلى الفنان إبراهيم سعفان ووضع لها برنامجا تثقيفيا قبل أن يسند لها دور البطولة في أول أفلامها "حسن ونعيمة" لتبدأ سعاد حسني مسيرة النجومية وهي بعد مراهقة في السادسة عشرة من عمرها.

لم تعتمد النجمة ذات الموهبة المتوحشة على أن موهبتها أو حتى صغر سنها يمكنهما أن يكونا عذرًا مقبولا لدى الجمهور، ووعت الدرس جيدا لتطور من ثقافتها وتحيط نفسها بالعقول اللامعة والمواهب الكبيرة لتصنع أسطورة فنانة حفرت عميقا في وجدان المشاهد العربي، كما أن الخميسي كان يعرف أن الفن جزء من رأس مال الوطن قبل أن يظهر مصطلح "القوة الناعمة" بسنوات طويلة.

أما عبد الحليم حافظ، الطفل اليتيم القادم من أعماق الفقر والذي قضى جزءًا من طفولته في ملجأ للأيتام، فلا ينافسه أحد حتى الآن في ذكاء بناء الصورة التي تكون جزء كبير منها من خلال صحبته لشعراء وكتاب وفنانين وجدوا في صوته وطلته قناة اتصال مع الجمهور العربي. 
لن أتحدث بالطبع عن ثقافة أم كلثوم التي بدأت بحفظ القرآن الكريم وتتلمذت على يد عباقرة عصرها، أو عبد الوهاب الذي تربى في بيت أمير الشعراء.

كان ذلك عصرا مختلفا قبل أن يكتشف فنانون ولاعبو كرة ونجوم في مجالات مختلفة أن الثقافة والمعرفة لم تعد بتلك الأهمية، وأنه يمكنك أن تحرق مراحل كثيرة لتبدأ رحلة المليون أو الملايين دون أن تضيع وقتك في قراءة الكتب أو تصدع رأسك بكلام المثقفين، خصوصا بعد التوصل للاكتشاف المهم بأن "العلم لا يكال بالبتنجان" الإفيه الذي تحول إلى عنوان عصر جديد.

فقلة المعرفة لم تمنع النجم الفلاني أو النجمة العلانية من أن تحصل على أدوار البطولة وتتقدم للواجهة، بل وتقدم البرامج ذات الأجور المليونية، والجمهور لم يعد يدقق في مثل هذه التفاصيل.

لا أعرف لماذا يغضب الجمهور ويطالب برأس المطربة الموهوبة و"العفوية" كما توصف بسبب تصريح هنا وآخر هناك، يجانبه التوفيق وتضطر إلى الاعتذار عنه، على الأقل شيرين لم تدَّع الثقافة أو الخبرة في غير ما تعلم، ألا يوجد لدينا "شيرينات" كثيرات وكثيرون يطلون عبر الشاشات بثياب الخبراء والإعلاميين، بل والسياسيين ليلقوا علينا دروسا في كل المجالات التي جمعوا فيها الخبرة "ما شاء الله" من أطرافها من أول السياسة والاقتصاد إلى كرة القدم والفن والطبيخ وعلوم الفضاء.

لم تخرج شيرين في يوم لتوزع صكوك الوطنية كما يفعل بعض هؤلاء "الشيرينيون والشيرينيات" ولو أثار كلامها أزمة هنا أو هناك فإن البعض سيلتمس العذر للمطربة "العفوية" التي لا تحسن الكلام، ولن يخلو الأمر بالطبع من لمز حول نشأتها "بيئتها" على اعتبار أن المنتقد ينتمي إلى بيئة تقدس العلم وتقدر التخصص وتحتفي بالثقافة، بينما يتسبب آخرون في أزمات ربما يتجاوز تأثيرها أجيالا وقد تدمر صلات بين الشعوب وثقتها دماء الشهداء مثلما حدث في أزمة مباراة مصر والجزائر التي لعبت تصريحات نجوم وإعلاميين "غير عفويين" دورًا في إذكاء الخصومة بين شعبين يجمعهما تاريخ من النضال، والمثير للسخرية أن بعض هؤلاء هم ممن يطالب برأس شيرين الآن.

الواقع أن ما يشعرني بالإهانة أكثر من المزحة الغليظة لشيرين، هو أن تظهر المطربة ذات الصوت الجميل والإحساس الرائع والتي يطلق عليها البعض "صوت مصر" على شاشة إحدى الفضائيات الخليجية ضيفة في برنامج فني كبير وتغني قصيدة مصرية كتبها شاعر مصري ولحنها ملحن مصري وغناها مطربون مصريون وهي قصيدة "لا تكذبي" لكامل الشناوي ولا تغني سطرًا واحدًا منها دون خطأ فاضح يجعل اللغة العربية تخفي وجهها خجلا.

لكن المفارقة الكبرى أن تأتي هذه الأزمة على خلفية تصريح يسيء إلى نهر النيل الذي يواجه خطرًا أكبر من البلهارسيا ومن المزحة الغليظة للمطربة "العفوية" خطرًا يمتد إلى وجود النهر نفسه، ولا أعرف هل هي مجرد مصادفة أن يظهر تسجيل المطربة بعد أيام قليلة من إعلان فشل مفاوضات سد النهضة بعد فشل الاجتماع الوزاري الثلاثي في القاهرة ليصبح الغضب على شيرين أكبر من الغضب على العطش الذي بات وشيكا 
وترتفع صيحات المطالبة برأس شيرين انتقاما لكرامة النهر الذي لم يغضب أحد لتلويثه بالمخلفات وجثث الحيوانات النافقة والاعتداء عليه بل وتهديد وجوده هو مشهد الذورة في مسرحية عبثية أم لا؟

شارك الخبر على