روح طليق خلف القضبان

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

يعود علاء عبد الفتاح ليوخز ضمائرنا من جديد، أربع سنوات من الغياب المجحف خلف القضبان، فقد وجهه استدارته، وازدادت كثافة لحيته، ولكن عينه لم تفقد بريقها، جيفارا جديد يولد من تراب مصر، ويدفع ثمنا غاليا لخط النضال السلمي الذي اختطه لنفسه، يعود لبرهة وجيزة من الزمن ليقف أمام قضاة غاضبين، يجددون أمر سجنه دون مبالاة بوضعه الإنساني، يعانون الدرجة نفسها من الغضب التي كانوا عليها عندما أصدروا حكمهم الأول، ذلك القاضي كان يدرك أنه قد أصدر حكما متعسفا، وحاول أن يبرره أمام نفسه قائلا إنه استخدم أقصى درجات الرأفة، أي نوع هذا من الرأفة الذي يحكم بخمس سنوات من السجن المشدد على مجموعة من الشباب الغض لمجرد الوقوف على أحد الأرصفة أمام مجلس النواب؟! 
لم يفعلوا أكثر من أنهم كانوا ضد قانون التظاهر، وضد تقديم المدنيين للمحاكمات العسكرية، لقد شملت قائمة الاتهامات الموجهة ضد علاء حوالي خمس تهم كلها إنشائية لا تتعدى حدود الكلمات، لم تتطور إلى فعل غير فعل الاحتجاج، بينما مورست ضدهم كل أنواع الأفعال العدوانية، خراطيم المياه التي انصبت عليهم، القنابل المسيلة للدموع التي خنقتهم، وتعرضهم للضرب بالهراوات والاعتقال والاحتجاز، وأكمل القاضي ذلك كله بالحكم بالإدانة، لم يبال بما لاقوه من عنت وإهانات، وكأن الدور الأساسي لرجال الأمن هو ممارسة العنف الزائد دون خشية من أي مساءلة، وعلى الشباب أن يدفعوا الثمن مضاعفا لمجرد أنهم اعترضوا على قوانين غير طبيعية تسير حياتهم رغمًا عنهم، فالعلاقة بين المواطن والسلطة الحاكمة هي نوع من العبودية الطوعية، إلا في مصر، فالعبودية هي نوع من القدر الذي يشكل حياتنا ويجعلنا غير قادرين على المجاهرة بأي رأي.

يعود علاء الفتاح ليذكرنا بأنه ذات مرة كانت هناك ثورة، فشلت في تحقيق أهدافها، وتشوه تاريخها، وتحولت من انتفاضة تطالب بحق الناس إلى مؤامرة عالمية، ولكن هذا كله لم يمنع من استفاد منها وأحسن استثمارها، هناك من اقتسم أجساد الشهداء الذين سقطوا في الميدان، حولوها إلى مكاسب شخصية لهم، صعدت وجوه جديدة إلى مناصب السلطة وهي تلعن الثورة، وجاء جيل جديد من رجال الأعمال بنفس شراهة الجيل السابق، وظهر جيش من منافقي السلطة يطنطنون في أجهزة الإعلام في قدح الثورة واتهام كل شبابها بالعمالة، تحالفوا جميعا على عزل كل من شارك في الثورة من الصورة، إما داخل السجن أو خارج البلاد، كأنما كأن هناك اتفاق بينهم ألا يتركوا الفرصة لقيام الثورة من جديد.

علاء عبد الفتاح هو ابن الأنتلجنسيا المصرية، النخبة المتعلمة التي تمخضت عنها الطبقة الوسطى، تلك التي تحملت عبء الثورة قبل أن تنضم إليها بقية فئات الشعب، اسمه مركب وطويل بعض الشيء، علاء أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح حمد، ناشط سياسي حقوقي، والده هو أحمد سيف الإسلام المحامي المدافع عن الحقوق السياسية للمواطنين التي أهدرت طويلا على أيدي كل الأنظمة المصرية وهي مهمة جليلة قام بها من خلال مركز هشام مبارك للقانون، ووالدته هي الدكتورة ليلى سويف أستاذة الرياضيات بكلية علوم القاهرة، وشقيقتها هي الأديبة القديرة أهداف سويف، وجده هو الدكتور مصطفى سويف أستاذ علم النفس الشهير، وزوجته هي منال بهي الدين حسن، خبيرة في التكنولوجيا ووالدها حسن بهي الدين الناشط المعروف في حقوق الإنسان، عائلة نادرة بجموع أفرادها ومستواهم المرتفع عالميا واجتماعيا، عائلة مثل هذه لا يمكن أن تكون خانعة، لا يمكن أن تكون مثل العديد من العائلات المصرية التي لا تحرك ساكنا مهما مر بها من أحداث، ويجب أن يكون الابن صنو أبيه كعضو عامل في الحياة السياسية، وقد بدأ علاء نشاطه مبكرا في عهد مبارك الذي استطال وتوغل في الفساد واستغل سمة الطوعية في الشخصية المصرية وأخذ يعد ابنه لخلافته. 
هذه الطوعية واستكانة المصريين لأهواء حكامهم هي إحدى الصفات التي طالما كرهها جمال حمدان في الشخصية المصرية، فما إن يعلو نجم حاكم، سواء كان شرعيا أو غير ذلك، حتى يلهج الجميع بالثناء عليه، وينقادوا إليه دون تفكير ودون قدرة على النقد والمحاسبة، ولكن بعد ثلاثين عاما من الحكم المطلق ولدت حركة "كافية"، مجرد حجر صغير ألقي في بحر المعارضة الراكد، ولكن دوائر الاحتجاج ظلت تواصل الاتساع حتى وصل إلى حافة الخامس والعشرين من يناير لينزع المصريون من على أكتافهم رداء الخنوع، وكان علاء عبد الفتاح هو أول من نزع هذا الرداء، ففي عام 2006 اعتقل للمرة الأولى عندما شارك في الوقفة التضامنية من أجل استقلال القضاء، وكانت التهمة هي إهانة أحد القضاة، وأنشأت زوجته مدونة بعنوان "الحرية لعلاء عبد الفتاح"، وصرحت قائلة لإحدى الصحف الأجنبية: "لقد بدأنا ولن نتوقف عن الاحتجاج بعد الآن"، وتم الإفراج عنه بعد 45 يوما، ولكن مدة الاعتقال طالت بعد ذلك، فرغم رحيل مبارك وانهيار نظامه فإن قبضة النظام لم تتراخ، ففي أحداث ماسبيرو التي اندلعت إبان حكم المجلس العسكري وأُهدر فيها عدد من أرواح إخواننا الأقباط، تم القبض عليه مرة أخرى ووجهت إليه تهم أشد عنفا، بل واستطاعت قوى الأمن أن تجند صحفية ناشئة حتى تدلي بشهادة تدعي فيها أنها شاهدت علاء وهو يضرب أحد الجنود ويستولى على سلاحه ويلقي به في النيل، تهمة لم تصمد طويلا، ولكن السجن تواصل بسبب الموقف الذي اتخذه علاء في وجه من يحاكمونه، لقد رفض أن يخضع للمحاكمة العسكرية وأن يجيب عن أسئلته، لقد أصر على ألا تتم محاكمته إلا أمام قاضيه الطبيعي، مع أن هذا القاضي أثبت فيما بعد مدى قسوته، فقد تراجع قضاة المحاكمة العسكرية أمام هذا الموقف الصلد، وحولوه لنيابة أمن الدولة التي لم تجد بدًّا من الإفراج عنه، ولكن قانون منع التظاهر الجديد تحول ليكون سيفا مسلطا على الجميع، على كل مظاهر الاحتجاج، كان النظام الجديد يفرض نفسه بنصوص مخالفة للدستور، كان أبرز ضحاياه هم شباب الثورة، خاصة شباب الثورة على وجه التحديد.

في الأيام الأولى لسجن علاء عبد الفتاح في طرة استقبلت الحياة أولى صرخات ابنه، فتح الطفل عينيه فلم يجد أباه، لكنه كان ابن الثورة، حمل اسم خالد تيمنا بأيقونتها خالد سعيد الذي أطلق مصرعه الشرارة الأولى للثورة، ولم يشاهد خالد الصغير أباه إلا في زيارات السجن الخاطفة، أنه في الرابعة الآن، ولن يظفر بحضن أبيه إلا بعد عام إضافي، ربما يستطيعان أن يتحدثا معًا، وربما يظل الوطن آمنا حتى يراه وهو ينمو وأن يعلمه كيف أن الروح يبقى طليقا مهما أحاطوه بالقضبان.

بالمناسبة: روح كلمة مذكرة

شارك الخبر على