ثقوا في جسور الحرير

٨ أشهر فى الإتحاد

هناك قصص في التاريخ الإنساني تتعارض ويتخالف فيها التاريخي دائماً مع الجغرافي في سلسلة ما تعرف بالحروب والمناوشات وحروب الاستنزاف والعداء المزمن، سواء بين جيران الجغرافيا والتاريخ أو بين قوى عظمى تفصل بينها بحور ومحيطات، كانت الحروب التي اشتعلت مدتها لا تزيد على سنوات، ولكنها غير فاصلة، وفترات الهدنة وبناء جسور من حرير تمتد لعقود، لكن لها فعلها الناعم في إدامة السلام، ولعل قصة أميركا والاتحاد السوفييتي والصين وكوبا والكوريتين، حلفائها، مثال حي ما زال قائماً، وإنْ اختلف التكتيك بتغير الزمان والأوضاع، كانت سياسة لعبة كرة الطاولة الـ «بنغ بونغ» بين أميركا والصين هي التي قرّبت المسافة بين خصمين لدودين يتناوشان من بعيد، وقاربت بين نظامين متضادين على الدوام، واحد يركب عربات النار نحو المستقبل وحتى الهلاك، وواحد يتخذ من الحكمة الكونفوشيوسية القديمة، والنظام الشيوعي المغاير والمتجدد عن الاتحاد السوفييتي، والمرحب بسياسة الانفتاح التدريجي، كانت لعبة سياسية ناعمة، وبعيدة عن العنف الدموي.ثم جاءت لعبة سياسية ناعمة أخرى بعد أن جرب الطرفان؛ أميركا وروسيا، حرب الجواسيس، والتصعيد الصاروخي في «خليج الخنازير» في كوبا، والتهديد النووي، كانت سياسة أميركا الناعمة هذه المرة باعتماد سفرائها من القوى الناعمة مثل «الكوكا كولا والبنطلون الجينز وماكدونالد وسينما هوليود وأغاني الروك..»، هي التي عجلت بنهاية الحائط الستاليني الحديدي، وانهيار المنظومة الشرقية.واليوم توحيد توقيت الكوريتين، سياسة جديدة ناعمة أخرى ستزيل جبل الثلج بين الجارتين المنقسمتين منذ هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية واستسلامها، وتأسيس حزب العمال الكوري من قبل الاتحاد السوفييتي، وتدريب كوادر شيوعية في موسكو لتأخذ زمام أمور القيادة السياسية في منطقته، والتي ستعرف فيما بعد بكوريا الشمالية، وتشكيل قوى سياسية رأسمالية مغايرة من قبل أميركا في منطقتها في شبه الجزيرة الكورية، ستعرف فيما بعد بكوريا الجنوبية، ثم قيام الحرب الأهلية الكورية التي استمرت ثلاث سنوات بدعم صيني روسي لكوريا الشمالية، ودعم أميركي لكوريا الجنوبية، ثم الانفصال الحقيقي عام 1953، هي قطيعة طويلة، وهجر دموي طال لأكثر من واحد وسبعين عاماً، وربما سيمهد له توحيد التوقيت الزمني لساعاتي العاصمتين المتباغضتين، وربما أيضاً سيزيل أسوار الشوك والحديد والألغام والصواريخ الموجهة، وحرب الجواسيس بين أهل وأقارب ومعارف فرّقتهم السياسة، وجندتهم الأيديولوجيا لمحاربة بعضهم بعضاً.قبل سنوات قليلة مضت قدمت كوريا الشمالية توقيت إيقاع ساعتها نصف ساعة، ليتطابق مع توقيت كوريا الجنوبية، في خطوة مفاجئة، وناعمة من قبل الجارتين اللدودتين، وتلغي بذلك قراراً صدر عام 2015؛ حين أقدمت «بيونغ يانغ» على تأخير توقيت كوريا الشمالية نصف ساعة عن التوقيت الذي فرضه المستعمر الياباني آنذاك، وقبل أكثر من قرن باعتماد التوقيت الياباني لشبه الجزيرة الكورية، وبمناسبة مرور سبعين عاماً على استقلال كوريا من الاستعمار الياباني الذي امتد من 1910- 1945.هي مهمة صغيرة وبسيطة، ودبلوماسية ثقافية ناعمة، ولكنها تفتح أبواب الأمل والعمل من أجل كوريتين متحابتين بدلاً من ذاك العداء التاريخي والسياسي المفتعل، والذي بقي ضمن ما بقي من تداعيات الحرب الباردة بين الدب الروسي والنسر الأميركي الأصلع، الكوريتان، ومنذ الاجتماع التاريخي في «بانمونجوم» بين الرئيس الكوري الجنوبي «مون جاي إن»، والرئيس الكوري الشمالي «كيم يونغ أون» الذي قال: «من المخجل أن نرى على جدار مكان انعقاد قمة الكوريتين ساعتين تشيران لتوقيتين مختلفين، واحد يشير لسيؤول وآخر لبيونغ يانغ».اليوم.. على الدول المتصارعة أن لا تتباطأ في إرسال حمائم السلام البيضاء، وإنْ اصطادتها أعيرة النيران غير الصديقة، وأن تظل تبعث بالرسائل البسيطة التي تحمل رسوماً لقلوب ملونة، ولا تمل من بناء تلك الجسور الحريرية بين الأنا والآخر.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على