للقراءة كتاب ”مسألة اللانهائية في الفكر الفلسفي“ لعبد اللطيف الصديقي

١٠ أشهر فى البلاد

تحاول هذه الدراسة أن تتقصى وتتفحص مسألة من أقدم المسائل الفكرية الشائكة في تاريخ الفلسفة والعلوم، وذلك لما تضطلع به وتتضمنه من أفكار وأبعاد تنطلق من الميتافيزيقيا واللاهوت والعلوم والرياضيات والفيزياء والكوسمولوجيا، وحتى الأحياء (البيولوجيا)وغيرها. سابرة أغوار الكون وغائصة في بطون الأشياء؛ إنَّها اللانهائية ببعديها في الكبر والصغر.
لقد حاولنا تسليط الضوء على هذه المسألة من الناحية الفلسفية لكن هذا لا يعني الاستغناء عن المعارف والعلوم الأخرى، وجاء تعقبنا وفحصنا لها من أصولها وتصوراتها في الفلسفات القديمة حتى يومنا هذا؛ بدءاً من الهند والصين واليابان واليونان مروراً بفلسفات العصور الوسطى والتيَّارات العربية الإسلامية، وصولاً إلى العصر الحديث بنزعته الرياضياتية. وقد تحمل بعض الحضارات والثقافات الأخرى كالبابلية والمصرية القديمة وحضارة المايا وغيرها، إلا أن بحثنا لم يسبر تلك التصورات حتى لا تتشعب الدراسة في القضايا التاريخية أكثر مما تقصينا.
جاء الجزء الأول من هذه الدراسة ليسرد لنا التطور التاريخي لفكرة اللانهائية وكيف تتقاذفها المسميات وتلصق بها المفاهيم المختلفة ، ومع  ذلك بقيت أبية نقية في جوهرها وكأنَّها لا تعير اهتماماً لتلك النداءات وتلك المحاولات حتى تجد ضالتها في أرض اليونان وتحديداً في شذرات أنكسمندر وبارمينـــدس وديموقرطيس وأنكساغوراس، وفي مفارقات زينو، وفي أروقة أكاديمية أفلاطون، ثمَّ تأخذنا اللانهائية إلى كنف المعلم الأول أرسطو الذي غاص في محيطها وتحدى وجودها الحقيقي على حساب ميتافيزيقيَّتِه الصارمة ليتسنى له أن يسلمنا وثيقة مبتورة تحمل نصف هويتها. هكذا استبعد أرسطو اللانهائية الفعلية وأخذ باللانهائية الممكنة مُصدِّقاً على أنَّ الأولى لا يمكن أن تُعد لا نهائية لارتباطها بالكل، والكلُّ كما كان يرى هو الذي تحده حدود؛ لذا لا يمكن للانهائية أن تكون محدودةً بحد !.
تأتي العصور الوسطى لتكمل ما قاله أرسطو مع بعض الانحرافات البسيطة وإلصاق اللانهائية باللاهوت، وبالله تحديداً. الله هو اللانهائي ؛ اللانهائي الحقيقي والفعليُّ وما سواه ليس إلا لانهائية ممكنة  هنا تلعب أفكار القديس توما الأكويني دوراً رئيساً في هذه الفترة إن لم يكن هو المفتي الأول للانهائية في ذاك العصر ؛ وهذا ما يناقشه الجزء الثاني، بالإضافة إلى التيار الإسلامي الذي حصر اللانهائية في محيط الأزليَّة وقدَّم العالم ، وهو المنحى الذي تناوله أولئك المفكرين على اعتبار أنَّ اللانهائية مرتبطة بالزمان إلى حد بعيد ؛ أي: لا نهائيَّة زمانيَّة ، اللهمَّ إلَّا شذرات عنها من هنا وهناك لأنَّ القول بقدم العالم وأزليّته عند هؤلاء الفلاسفة هو الذي أ أغاظ الغزالي واشتد حنقه لما تمثله هذه المقولة من إنكار وجود الصانع، ما يعني أيضاً دون الحاجة إلى الخلق، فلا بد للعالم أن يكون محدثاً في رأيه ؛ لأن الإحداث هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود وهـذا مـا يتعارض مع : تلك المقولة.
لكن تبقى تصورات رجال العصر الحديث كما جاء في الجزء الثالث التي امتزجت بعده مجالات منها اللاهوتي والميتافيزيقي ولكن تُوجت أخيراً برياضيات اللانهائية التي أتت إلينا من دراسات غاليليو وبولزانو وكانتور وروبنسون 
ومع ذلك، تبقى مسألة لا نهائية الكون الهاجس الكبير الذي يقض مضجع الباحثين في علم الكونيات (الكسمولوجيا)؛ تلك المسألة التي لم يحسم أمرها بعد على الرغم من المحاولات والبينات الدالة على ذلك، إلَّا أنَّ معظمهم ، إن لم يكن جُلَّهم لا يحبذون فكرة اللانهائية لأنَّ فيزيائيتهم ترفض ذلك. حتى الفيزيائي الكبير ألبرت آينشتاين تردد وتحفظ على ألا يخرج من تلك القوقعة، بل مدنا بفرضية تقول: "الكون نهائي ولكنه بلا حدود ؛ هذه الفرضية الشبيهة بنقائض فيلسوف كونيسبرغ إمانويل كانط وهذا ما سوف نراه في الجزء المعنون: كيف حاور هؤلاء اللانهائية وتحديداً عند آينشتاين وكأننا في هذا المقام نحاكم اللانهائية ونضعها على المحك لتدلي بما لديها من أقوال ودفاع. 
يستمر مسارنا مع اللانهائية لكي نتعرف عليها أكثر لتصبح رفيقة دربنا اللانهائية ؛ تلك الدرب المليئة بالمزالق والمتاهات الفكرية مثل الدرب التي تاه فيها لا يبنتز وباسكال وغيرهم من الفلاسفة و الشعراء ،  لنرى كيف لعقل نهائي ومحدود أن يتصوّر ويستوعب اللانهائية؟ كيف يمكن للذهن هذا أن يتناول موضوعاً شائكاً وعصياً على أن يهضم ويُفسر بعصبوناته المحدودة ذلك الأفق اللانهائي؟ ذلك الكيان اللانهائي ؟ فهل العقل لا نهائي ؟ أم إنَّ التفكير لانهائي؟ هذا الجزء الأخير من الدراسة سوف يلقي الضوء على تلك الإشكالية التي تجيب عنها فروع مثل السيكولوجيا والمنطق.
لماذا اللانهائية؟ بكلمات أخرى ما الذي يوقظ فينا مثل هذه الأفكار، وتلح علينا فتجبر حسنا العام على الشعور بالارتباك والتورط إن لم يكن انتهاكاً له؟ هل هي فكرة لخبرة سابقة أم مأزق لا مفر منه؟ أم عجز في قدرة الذهن على المضي قدماً لاستيعابها؟
نعود لنؤكد ونكرر بأنَّ العقل قادر على تجاوز حدوده، وإلا لما أصبح التفكير مفتوحاً ومتناغماً مع وجوده كآلة مفكرة تسعى إلى تحقيق متعة التسامي والتعالي ليراهن بها على قوة حدسه المحض فيكون الأداة الحادة والبراقة لفك طلاسم الوجود وكنهه، مبرهناً على أنه سيد هذا الكون شاهراً سيف العلم.
ثمة تساؤلات أخرى تنطلق عندما تُناقش مسألة اللانهائية؛ منها ما يتعلق بطبيعة اللانهائية وبوجودها بوجه عام، فما هذا المفهوم الذي يستحوذ على تفكيرنا ويقودنا إلى متاهات لا نعرف حدودها؟ وإذا ما كان في مقدورنا النيل من ذلك، نجد أنفسنا نعيد الكرة أمام لا نهائية أخرى وجهاً لوجه. فهل هذا خيال أم واقع يأخذ صوراً خيالية؟ لكن حَسَب علمنا أنَّ العقل لا يستطيع أن يُقدِّم لنا أي شيءٍ عن الوجود ما لم نفكر فيه فلا بد من أن يكون لهذه الفكرة وجود حقيقي، وإلا لما ظهرت إلى الوجود، أم إنَّ محاولاتنا ما هي إلا اختراع أو إبداع ذهني للتغلب على مأزق ما أو حالة ما ؟ أو كما يقول جون لوك : إنَّ فكرتنا عن اللانهائية نحصل عليها من القدرة على التكرار التي نلاحظها بأنفسنا دون نهاية لأفكارنا"، أو كما يقول الشكليون ذوو النزعة الأكسيوماتيكية (البدهاتية): في الرياضيات مجرد صيغة أو رمز يدلُّ على معنى متفق عليه دون أن يكون له مدلول خارجي". أو كما : أصحاب النزعة الحدسية الجدد في الرياضيات أن : "جميع أنواع اللامتناهي يفلت مبدأ الثالث المرفوع ؛ ذلك المبدأ الذي يقرر إمَّا القضية صادقة أو كاذبة يزعم من ولا مجال لاحتمال ثالث
وعلى الرغم من أنَّ اللانهائية قد أربكت الكثيرين إلا أنها بقيت الصوت المدوي واليد الطولى في الفكر الفلسفي والعلمي على حد سواء على اعتبار أنَّها كينونةٌ تحقق غايات الوجود وأبعاد الكون؛ كينونة تقتحم كل أسوار القلاع المنيعة لتقدم لنا نموذجاً يحتذى بـه لشتى المجالات دون استثناء. ولا نغالي إن قلنا إنَّ اللانهائية هي بمثابة الوصول أو اكتشاف الحقيقة، إن لم تكن هي الحقيقة نفسها ؛ الحقيقة التي كان ديكارت يبحث عنها عن طريق الشك، أو التي كان يسعى إليها نيتشه عن طريق تحليل الحقيقة نفسها. هنها نجد مرادنا ينحو صوب نيتشه وهو تحليل اللانهائي. 
وأرجو أن لا تكون نظرتنا نرجسية تجاه اللانهائية كالنظرات التي دفعت ناركسيوس إلى أن يرى صورته الجميلة غير مدرك أنها بسبب ظلمة وقتامة البركة التي كان يحدق بها بصرف النظر عما يكمن في أعماقها.
وبحثنا هذا عن اللامتناهي يجب أن لا يكون "برجاً لا متناهياً من السلاحف"، كما يقول الفيزيائي البريطاني بول ديفز في كتابه الله والعقل والكون»، بل يضيف ولا عدداً لا متناهياً من العوالم المتوازية أو مجموعة لا متناهية من القضايا الرياضياتية أو خالقـاً لا نهائياً ؛ لأنَّ الوجود الفيزيائي لا يمكن بالتأكيد أن تكون جذوره في أي شيء متناه.
وفحوى القول إنَّ اللانهائية هي ذلك الكيان الجبار الذي يسبر أغوار الوجود بكل أبعاده ليبرهن لنا على أنَّ هذا العالم بشقيه المرئي وغير المرئي أو بتعبير أدق الماكروسكوبي والميكروسكوبي تمتد جذوره إلى ما لا نهاية لأنَّ اللانهائية ذاتها هي التي تتفاعل مع حركة الكون وقوانينه الصارمة لكي تبقي ديمومته وترابطه ومتى ما تعرفنا على هذا المفهوم الزئبقي ذي السمة الميتافيزيقية، فإنَّ وجود عددٍ لانهائي من الأشياء، بغض النظر عما تكون مادية ملاحظة / عينية، موضوعية، أو ذهنيَّة ؛ أي: عوالم لا نهائية أو أفكار وصفات وحالات لا نهائية، فإنَّه بوسعنا أن نصوغ إطاراً لا نهائياً أو صيغة رياضية قادرة أن تختزل مكونات الوجود وأبعاده وما يحمله من ظواهر تفسر هذه الآلية التي تحكم قوانين الطبيعة.
لذا يبقى اعتقادنا بأنَّ الكونَ لا نهائي والعالم بأسره حتماً لا نهائي. ومن يعلم؟ ربما نلتقي بجيردانو برونو في عوالمه اللامتناهية، ليدلنا على كائن مفتون باللانهائية، كما هو كاتب هذه السطور في عوالمه تلك، لنجده وقد تناول هذه المسألة من زاوية مختلفة وأكثر تشويقاً عمَّا سطّرته هذه الصفحات وأوجد الصيغة الرياضياتية التي تعبر عن آلية فيزيائيته، فيكون شاهداً محتملاً على أن بحثنا لن يذهب سدى.

شارك الخبر على