“الباخشة”... لمحات تاريخية عن أول حديقة حيوان عامة في مملكة البحرين
almost 2 years in البلاد
بدعوة من مركز عبدالرحمن كانو الثقافي شاركتُ بمحاضرة بعنوان “أسبقية البحرين الثقافية والحضارية: حديقة الباخشة مثالاً” وقد اخترتُها لأسباب عدة منها:
الحنين والشوق إلى الماضي الجميل، والاستفادة منها، والإلمام بأحداثها التاريخية المشوقة، وخاصة أنها تصادف مرور 100 عام على فكرة إنشائها ومرور 91 عاماً على إنشائها. كانت ومازالت مملكة البحرين سباقة في كثير من الأمور الثقافية والحضارية ومنها إنشاء حديقة الباخشة كحديقة عامة وحديقة حيوان وفي اعتقادي أن غالبية الجيل الحالي لم يسمع عنها، رغم أن شهرتها وصلت إلى آفاق الدول المحيطة، منذ إنشائها في 1932 وعرفت باسم “الحديقة العامة” أو “حديقة البلدية” ولكنها اشتهرت باسم “حديقة الباخشة / الباغشة” وهي كلمة فارسية ولها معانٍ مختلفة بحسب لفظها ومنها “حديقة الملك” أو “الحديقة الملكية”، مازالت تثير الكثير من الذكريات والشجون الجميلة لدى الأشخاص الذين عاصروها وحتى الذين لم يعاصروها ولكن سمعوا عنها وعن قصصها المشوقة كونها في وسط مدينة المنامة وقريبة من شارع الشيخ عبدالله المعروف بشارع الذهب.
تميزت الحديقة بسور وبوابات من الحديد صُبت على الطريقة الإنجليزية وهناك اختلاف في عدد بواباتها حيث يقال بوجود بوابة واحدة أو بوابتين من جهة الجنوب المطل على فريج (حي) الحمام المجاور لفريج المخارقة وبوابة مطلة على الشرق جهة موقف سيارات الحريق وباب آخر وأطلق عليه الشمالي والقريب من بيت المرحوم الشيخ أحمد العصفور المطل على شارع الشيخ عبدالله وفريق كانو وبداخل الحديقة ممرات وجداول ونافورة وكراسي للزوار وأقفاص لأنواع مختلفة من الحيوانات والطيور والقرود والثعالب وغزلان وحمار وحشي وذئاب ونسر واحد وزرافة، وأصبحت الحديقة متنفساً لكثير من الأهالي والزوار والمقيمين، لاحتوائها على أصناف عديدة من الأشجار تفوح منها روائح عطرية ونباتات وأزهار وورود، ويقال إن بعضاً من تلك الأشجار كانت ضخمة مثل أشجار حديقة الهايد بارك المشهورة في لندن، وقد اكتسبت الحديقة أهمية لاهتمام المستشار تشارلز بلغريف بها وقيامه بجلب مختلف الأشجار والحيوانات والنباتات من داخل وخارج البحرين ويقال إنه كان يطلب من بحارة السفن البريطانية جلب مختلف الشتلات معهم، وحرص على تواجد فرقة موسيقى الشرطة عصر يومي الاثنين والخميس، وكان رئيس الفرقة هندياً ملتحياً من طائفة السيخ لعزف مختلف المعزوفات الموسيقية الجميلة لمدة ساعة ونصف؛ ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قل الاهتمام بالحديقة وتم إغلاقها في العام 1946، واستخدمت مكاناً لعربات حمير البلدية وتم اقتطاع أجزاء منها للتوسع العمراني، حتى إزالتها بالكامل في بداية الخمسينات من القرن الماضي لبناء مدرستي المنامة الثانوية للبنات وفاطمة الزهراء الابتدائية والتي كانت أول مدرسة حكومية مختلطة للأولاد والبنات، وإنشاء محطة فرعية لتوزيع الكهرباء والماء ومبنى لإدارة التربية والتعليم وسكن لمفتشة مدارس البنات السيدة وفيقة ناير.
تم إنشاء الحديقة من قبل بلدية المنامة في منطقة كانت في الأساس منطقة زراعية وتحيط بها داليات وتصلها المياه من أخاديد وجداول وقنوات مائية من عين مشبر الكائنة في قلعة الديوان وسماها البعض نهر المنامة أو نهر مشبر، وكان يشق المنامة من أولها إلى آخرها وكان هناك نبع ماء آخر يعرف بـ”عين الخضرة” بسبب أن مضخة الماء كانت خضراء اللون، وكان الجدول “الساب” من جهة فريق الحمام يمتد إلى شارع الشيخ عيسى (شارع بلغريف سابقاً) ويصب في البحر، وقبل تلك الفترة تم تأجير الأرض على السيد حاجي آ٥غا بمبلغ 80 روبية سنويا في عام 1922 لغرض الإستثمار التجاري بإنشاء متنزه عام وتحصيل رسم دخول ولكن المستثمر لم يوفق، مما دعاه إلى إرجاع الأرض إلى بلدية المنامة في العام 1923 فظلت الأرض مهملة لسنوات حتى قيام مستشار حكومة البحرين آنذاك تشالز بلغريف وكان مهتماً بالرسم والحدائق والمناظر الطبيعية بالإيعاز إلى بلدية المنامة لتطوير الأرض وإنشاء حديقة عامة وجلب الكثير من الحيوانات والأشجار والنباتات من الهند والعراق لحديقتي الباخشة والبديع التي طورها لتكون مركزاً للتجارب الزراعية وتم إنشاء الحديقة على غرار ومستوى الحدائق العامة في أوروبا وحديقة الراني في الهند، وأشرف بلغريف على التطوير والتنسيق من خلال مهندس هندي متقاعد كان يعمل لدى دائرة الأشغال، مما ساهم في أن تكون حديث الناس محلياً وإقليمياً وأصبحت مركزاً ترويحياً عاماً، وزاد إقبال الناس والعائلات على اصطحاب الأبناء بعد قيام المقيم السياسي البريطاني في البحرين المقدم تشارلز جيفري بريور، عند مغادرته البلاد بإهداء دب كان يمتلكه ولكن المؤسف أنه بعد سنوات توفي الدب، مما دعا البلدية لإصدار إعلان نعي للدب؛ ونظراً لطلبات الزوار المتكررة بجلب دب آخر قامت البلدية بجلبه وأصبح مثلاً شعبياً متداولاً بالقول “دب الباخشة”، وأستمرت البلدية في الاهتمام وتطوير الحديقة ويقال إنها فرضت رسماً لدخول الحديقة في بعض الأوقات بعد أن كانت مجانية في بدايتها، وكانت تفتح أبوابها بعد العصر وحتى أذان المغرب، وقد اكتسبت الحديقة شهرة كبيرة من خلال زيارات حكام المنطقة ومن تلك الزيارات، إقامة بلديتي المنامة والمحرق احتفالاً كبيراْ للمغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ال سعود ملك المملكة العربية السعودية خلال زيارته للبلاد في 1939 وكذلك عرض أفلام سينمائية تثقيفية وترويجية خلال الحرب العالمية الثانية ونصب خيمة لجمع التبرعات لشراء طائرات حربية لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية والمعروفة باسم “سبيت فاير” وإقامة العديد من الفعاليات الاجتماعية والثقافية في مختلف الفترات ومنها استخدامها مكاناً للتطعيم خلال الأوبئة.
رغم عدم معاصرتي لتلك الفترة، ولكني سمعت وقرأت الكثير عنها، مما حفزني على التواصل مع بعض الإخوة والأصدقاء الأعزاء لسرد بعض من ذكرياتهم الجميلة مثل دخول البوابات الحديدية الكبيرة والمدهونة باللون الأخضر وأسوار الحديد المثبتة من جهة الشرق والجنوب، ولقربها من مدرسة اتحاد إيرانيان والمعروفة بمدرسة العجم، فقد كان طلابها يؤدون تمارين حصة الرياضة فيها، وقد أبدى الكثيرون الأسف والحسرة على إزالتها، وأعلمني أحد الإخوة الأعزاء بمعلومة ترجح وجود رسوم في إحدى الفترات لدخول الحديقة، وقدرها “آنتين”.