شهاب الخشاب يكتب «الفهامة ٧٦».. الاختلاف والتأجيل

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

إيه قصة أحمد النبي؟ كلنا عارفين إن الأحمد من ألقاب النبي محمد (صلى الله عليه وسلّم)، وإنما قصة أحمد النبي قصة ثانية كانت بتتحكي للشباب اللي بيدرسوا العربي عشان يحسوا بأهمية التشكيل في اللغة. كان يا ما كان، رجل ماشي في شوارع بغداد وهو بيقول "أنا أحمد النبي، أنا أحمد النبي". أهالي المدينة اتهموه بإنه بيدعي النبوة، وودّوه للخليفة المأمون عشان يحاكمه. الخليفة سأل أحمد "إزاي تقول إنك أنت النبي؟"، فرد الرجل: "كنت بقول أنا أحمد النبيَ يا أمير المؤمنين، أمال أنت مابتحمدوش؟". ضحك الخليفة وسابه لحاله، وحركة التشكيل اللي كانت هتوديه في داهية بقت خيط النجاة في الآخر.

الاختلاف بين "أنا أحمد النبيُ" و "أنا أحمد النبيَ" مش باين في الكلام العادي ولازم الواحد يكتب التشكيل عشان يفهم الفرق بين الحالتين، فرق بين رجل بيدّعي النبوة ورجل بيحمد النبي، فرق بين الحياة والموت في الغالب. الفرق ده مثال لأفكار الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا عن  العلاقة بين الاختلاف (différence) والتأجيل (différance).

في مقال مؤسس عنوانه "التأجيل" (différance La)، دريدا وضّح الافتراضات المخفية اللي بتسمح بإننا نحدد معاني الكلام اللي بنتكلمه وبنكتبه. الافتراض الشائع حسب دريدا بدأ من كتبات عالم اللغة السويسري فرديناد دو سوسور (Ferdinand de Saussure)، اللي كان مقتنع إن أي لغة عبارة عن مجموعة محدودة من العلامات المكوّنة من جزئين: جزء مادي من ناحية وجزء معنوي من ناحية ثانية. الجزء المادي بيعبّر عن وجود معنى بيربط بين الشيء المادي وعالم من المعاني اللغوية الصافية. فمثلاً رسمة وصوت الحروف اللي بتكوّن كلمة "أحمد" عبارة عن شيء مادي بيدل على اسم بني آدم في اللغة العربية.

في نظرية سوسور، مافيش علاقة منطقية بين العلامة ومعناها، يعني مافيش أي سبب يخللي شكل الحروف والخطوط اللي بتكوّن كلمة "أحمد" يبقى معناها اسم معيّن، ولا فيه سبب إن علامة الاسم ده تكون "أحمد" مش "Ahmad" ولا "أ ح م د" مثلاً. يعني معنى العلامة مالوش علاقة مباشرة ومادية بالشيء اللي بيعبّر عن العلامة، وإنما بيظهر في اختلافه عن جميع المعاني الثانية في اللغة. حروف "أحمد" مش علامة الاسم بسبب إن الخطوط المرسومة على الصفحة لازم يكون معناها اسم معّين، وإنما عشان اسم "أحمد" مختلف عن اسم محمد ومصطفى وآدم وعلي وزيد وعبيد إلخ، وفيه ربط غير منطقي بين الحروف المرسومة والاختلاف عن جميع الأسامي دي. يعني الكلمة الواحدة مالهاش معنى في المطلق، وإنما بيظهر معناها في اختلافها عن جميع المعاني الثانية جوة اللغة.

دريدا لاحظ إن نظرية سوسور بتفترض إن الاختلاف بين المعاني ده حاضر طول الوقت، وكأن أي مرة الواحد بيقول "أحمد" هو في الواقع يقصد "مش-محمد" و"مش-مصطفى" و"مش-آدم" في نفس اللحظة تحديداً. وإنما حسب دريدا، أي كلمة بتتكتب وبتتقرأ مالهاش معنى حاضر بالعكس، وإنما معناها دايماً مؤجل، لإن معنى العلامة لا يمكن يكتمل إلا في امتداد الوقت والمسافة بين معنى والثاني. يعني الواحد مايقدرش يعرف أبداً معنى كلمة "أحمد" في المطلق، لأن معناها دايماً مؤجل للحظة لاحقة هنعرف فيها إن العلامة دي شخص اسمه "أحمد النبي" أو شخص "بيحمد النبي" أو جوز خالتي مثلاً. المعاني دي عمرها ما بتبقى حاضرة، وإنما دايماً ببتأجل للحظة غايبة.

بالتالي في نظرية دريدا، مافيش فرق فعلي بين الاختلاف والتأجيل، لأن الاختلاف بين المعاني اللغوية اللي المفروض تحدد مضمون الكلام والكتابة دايمًا مؤجل للحظة لاحقة وعمرها ما بتكتمل في الواقع. لذلك مافيش اختلاف في النطق بين الكلمتين اللي بيعبّروا عن الاختلاف والتأجيل بالفرنساوي (différence و différance)، لأن الفرق بين الإثنين مش محسوس ولا الناس بتفكّر فيه، زي الفرق بين "أحمد النبيُ" و"أحمد النبيَ" بالضبط. كلنا عندنا انطباع إن الكلام والكتابة ممكن يكونوا واضحين لو الناس كانت قادرة تفهم اللغة بشكل كويس، وإنما دريدا وضّح إن المعاني اللغوية مابتبقاش واضحة إلا في لحظة عمرها ما بتحضر بالكامل، لا في الكلام ولا في الكتابة. مافيش معاني صافية إلا في وقت ومساحة غايبة عن وعينا، بين الكلام والكتابة، بين الحرف والثاني، بين الضمة والفتحة.

بالمعنى ده، أحمد النبي ما نجاش من الموت عشان وضّح قصده لأمير المؤمنين، وإنما عشان أجّل اللحظة اللي نقدر نحدد فيها نهائيا إذا كان بيدعي النبوة أو بيحمد الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، وربنا عالم هو كان يقصد إيه من أساسه.

شارك الخبر على