فلسفةُ السّخاء

١٠ أشهر فى الإتحاد

السّخاء أحدُ أُمّهات الفضائل في الفلسفة الأخلاقية القديمة، وهو أحدُ أخلاق العرب قبل الإسلام والتي ضربوا بها المثلَ في الزّهد في المال والنّفس، وقد جعل الكتابُ العزيزُ السّخاءَ في قلب المنظومة الأخلاقية القرآنية، حيث ربطه بالنّفس والمال، فذمّ شحّ النّفس وقبْضَ اليد، ودعا إلى جعل المال قُربة كبرى، وسمّى هذه العملية زكاة، إشارة إلى ما تعود به على النّفس من سموّ روحي سواء كانت هذه الزكاة إحدى أركان الإسلام، أو كانت إحدى كمالاته الممكنة.وقد مثّلتْ قصّةُ ابن رشد الفيلسوف مع أبي العبّاس السّبتي إحدى الحكايات التي تبرز الأهميّة الفلسفية للسَّخاء، حيث كان السّبتي كثير الإنفاق، فأرسل الفيلسوفُ أحدَ أصدقائه ليتحسّس أعماله، فوجده ينفق ذات اليمين وذات الشمال، ولا يتوقف عن البذل. فلما عاد وأخبره، كانت قولة ابن رشد الرائعة أن السّبتي يؤمن أن الوُجودَ ينْفعلُ بالجُود، وأنها إحدى مذاهب الفلسفة القديمة.«الوجودُ ينْفعل بالجود»، هي إحدى الشّعارات الفلسفية التي ارتبطت في الثّقافة الإسلامية بأبي العباس السّبتي في القرن الثاني عشر الميلادي، لكنها أصبحت في القرن العشرين علامة مميزة للشّيخ زايد رحمه الله، فقد انفعلتْ بجُودِه كثيرٌ من بقاع هذا الوجود، وأين ما حللتَ إلا ووجدتَ انفعالاتٍ تَتَموَّجُ فرحةً وجذلا، وقد أحسستُ بعمق بهذه الانفعالات على أرض أقفُ عليها، ويُبْنَى عليها السّاعةَ أضخمُ مستشفى في أفريقيا، مستشفى الشيخ زايد، وكأنّ الرّجل بعد موته يُكْمل ما سبق أن وقف عليه حيّا يرزق من أعمال تبرّ بصحّة الناس، وتبثّ في أبدانهم العافية والسّعادة. يمتدُّ فعلُ الشيخ زايد في الزّمان والمكان، فكان تأسيس «صندوق الزكاة» لزيادة الوعي بالعطاء وترسيخ قيمة الجود ومفهوم فاعلية الإنفاق ودوره المهم في انفعال الوجود على المستويات الفردية والاجتماعية صحة وسعادة، وأمنا واستقرارا. وقد حملتْ، لواء هذا المشعل الفلسفي الجميل، ذُرّيّتُه من بعده، فكان الشيخ خليفة بن زايد رحمة الله عليه، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان من بعده، بارك الله له في عمره، أحد الممثّلين لهذه الذّرية المباركة التي ينفعلُ الوجودُ بجودها، وكان التَّفاعلُ الكبيرُ للشّيخ محمد بن زايد مع المبادرة الإنسانية الأكبر في منطقة الخليج، مبادرة المليار وجبة، موقفاً إنسانياً عميقاً يرى الخير العظيم خيره الثّري، والفعل الجميل فعله الكبير. ولمّا كان مِلاكُ الوجود البشري الصّحة والتّعليم، فإن البقيّة الصالحة للشّيخ زايد، رحمه الله، اعتنت بهذين القطاعين في الدّول التي تريد تعزيز بنيتها الصّحية والتّعليمية، وبخاصة في أفريقيا، فكان جودها من القوّة أن انفعل وجود كثير من جنبات هذه القارّة صحّة ومعرفة.من أبي العباس السّبتي، إلى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تسعة قرون والوجود ينفعل، من قبل ومن بعد، بآثار هذه «الفضيلة المشعّة» التي هي قوة أخلاقية توجد في النّادر من الناس، جودُ السبتي كان جود فطرة وتلقائية، وجودُ زايد كان جود فطرة وتنظيم، ولذا كانت آثاره مُشعّة على بلاده أولاً، فابتعث في الصّحراء جنّات غنّاء بمؤسسات قوية شامخة، وكانت آثاره واضحة على كثير من البلاد الأخرى مؤسسات صحّية وتعليمية وخيرية تُوقف الهدر الإنساني، وتُجسِّدُ الكرامةَ الإنسانيةَ مثالاً محسوساً مشاراً إليه. وهذا، في تقديري، عمق فلسفة السّخاء.*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية
 

شارك الخبر على