لمن يشتكي المصريون؟

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

كنت صغيرا حين بدأت أعتاد صوت المذيع عند الساعة السادسة صباحا من كل يوم وهو يقول: كان الصحابة على عهد رسول الله يستفتونه في أمور دينهم فيفتيهم، وانطلاقا من هذا النهج النبوي تقدم إذاعة القرآن الكريم هذا البرنامج.. بريد الإسلام.

لم يتوقف البرنامج، لكني أصبحت أسمعه على فترات متباعدة في المواصلات العامة أو في بعض المحال فتجذب أذني أسئلة بريدية لمواطنة من بورسعيد تسأل إن كانت هدية لزميلتها المسيحية في العمل تخالف صحيح الدين، أو آخر يسأل إن كان هناك ما يبيح له بيع أرضه الزراعية ووضع ثمنها في البنوك والإنفاق من عائدها على بناته خشية دمار المحصول وعجزه عن الفلاحة بعد تقدم السن وعدم وجود الولد الذي يتولى المسئولية.

ضيوف البرنامج أزهريون من الأساتذة غير المشهورين تليفزيونيا، ومعظمهم راض بموقعه، وإجاباتهم عادة ما تبدأ بالصلاة والحمد مستعينين بآيات من الذكر، وشواهد من السنة. والشاكون والسائلون معظمهم من خارج القاهرة لا ملجأ لهم سوى هذا الباب. لكن مع تحول فقرة "الشيخ" إلى جزء أساسي في خريطة القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية كفقرة الطاهي المحترف، وبرنامج المرأة أخذت الأسئلة منحى جديدا.

زوجي يريد الزواج بأخرى، وابني يمارس العادة السرية، ووالدنا يريد أن يقسم التركة بالتساوي مع إخوتنا البنات لا كما يقول الشرع. وأشك أن ابنتي تتعاطى المخدرات فما العمل؟

وفي إذاعة حديثة صادفت تكرار نفس الأجوبة من الشيخ الأزهري عن أسئلة لها علاقة بشكوك إيمانية أو موقف من سطوة الأب أو تفكير في جدوى الحياة بعد فشل عاطفي أو مهني. يقول الرجل بتعجل وثقة وصوت يملأه اليقين والملل في آن واحد: عد إلى الله.. هل تصلي؟

وحين فتح كشك الفتوى أبوابه أمام المصريين في مترو رمسيس دون سابق تحضير قبل أن يغلقها فجأة أيضا كنت مهتما بما يسعى المصريون إلى الشكوى منه والسؤال عنه. كان الشيوخ يسربون للصحفيين من آن لآخر عينات من الأسئلة التي يستقبلونها ومعظمها مما له علاقة بالمواريث والزواج، لكن شيخا أشار إلى تكرار الأسئلة عن مصير الدكتور مجدي يعقوب.. هل يدخل الجنة أم لا؟

وفي السنوات الأولى من الجامعة كان معتادا أن تسمع صوت أسامة منير من كل راديو صغير يستقبل حكايات مراهقة عن العلاقات والحب. تشكو الفتاة حبيبها بلوعة ويأس قبل أن يجيبها هو بحكم ومقولات ساذجة لم يغير صوته الرخيم من حقيقتها بينما صوت شيرين يبدأ خافتا في الخلفية: "كنت عارفة.. إنك هتبعد.. كنت عارفة.. إنك أناني".
لكن بعد كل هذه السنوات ما الذي تغير؟ ولمن يلجأ المصريون عند إلحاح شكوى في علاقاتهم الأسرية والعاطفية؟ هل تغيرت نظرتهم للأطباء النفسيين وبات اعتمادهم على مختصين في العلاقات يسبق سؤالهم لشيخ أو باب شكاوى في الصحف؟

سألت الطبيب النفسي نبيل القط فقال إن الذهاب إلى دار الإفتاء ورجال الدين لم يتغير، وحتى في المشكلات الأسرية هم على جدول الأسئلة قبل الطبيب النفسي، وعادة ما ينصح الشيوخ بالذهاب إلى طبيب نفسي في حالات الوساوس القهرية والاكتئاب والشكاوى المرضية، لكنك لن تجدا شيخا جاءه زوجان للطلاق لمرتين متتاليتين ينصحهما برؤية طبيب نفسي يبحث معهما السبب.

يقول القط إنه منذ عام 2000 كان معروفا لدى قطاع كبير من الجمهور بعلاجه للإدمان، ومع ظهوره لاحقا في أكثر من عمل درامي وبرنامج تليفزيوني تغيرت الصورة، واختلفت القاعدة التي تقصده.

يبدو متفائلا وهو يصف تغيرا كبيرا في القاعدة التي باتت تذهب للأطباء النفسيين بحثا عن حل، لم ير ذلك قبل عشر سنوات، لكنه يضيف أن مشكلات أخرى غير تلك تحتاج لوعي أكبر بحجمها، وبضرورة السعي لعلاجها كتلك الناتجة عن ضغوط العمل أو الدراسة أو حياة ومسئولية ما بعد الزواج والمشكلات العاطفية.

لنحو 14 عاما يتولى الكاتب أحمد البري مسئولية صفحة بريد الأهرام. الصفحة التي احتلت مكانا متقدما في مقاصد المصريين عند الشكوى. يقول البري إن التقدم التكنولوجي وظهور أشكال جديدة للمشورة والشكوى لم يغير في حجم تدفق الرسائل الذي يصله. سواء في الباب اليومي أو في بريد الجمعة.

يقول البري إن ما يصل إلى آلاف الرسائل  يصله بشكل يومي. تنقسم بين شكاوى ومشكلات تستدعي تدخلا من مسئول حكومي، أو أخرى تبحث عن نصح ينشرها في الصفحة المخصصة لذلك كل جمعة. يضيف أنه حريص على أن يكون محركه في التعامل مع ما يصله في الشق الثاني هو الجانب الإنساني، ألا يصدر أحكاما ولا يقسو على صاحب القصة. وأن يمنحه ما يساعده على اكتشاف أبعاد أزمته. سواء من خلال قصة شبيهة من تراث إنساني، أو تجربة شخصية.
لا يتوقف الأمر على الرسائل المنشورة والردود عليها فقط. يقول الرجل الذي تسلم المهمة بعد الراحل عبد الوهاب مطاوع الذي أضاف للزاوية ثقلا كبيرا وأهمية لدى الجمهور المصري. مكتب البري في الأهرام تحول إلى ملتقى يقصده أصحاب الشكاوى، وهاتفه يستقبل اتصالاتهم ورسائلهم لمتابعة ما جرى معهم بعد القصة والشكوى. وهو أكثر ما يبهج الرجل ويشعره أنا ما يفعله ذو قيمة وأثر في حياة الناس.

من حكايات الأصدقاء اكتشفت توجه كثيرين لمجموعات فيسبوك المغلقة بحثا عن الشكوى، أو التشارك في القصص، ومثل هذا تغيرا في شكل التعاطي مع المشكلات الشخصية، والجهة التي يقصدها أشخاص بحثا عن حل أو مجرد البوح فقط.

وهذا ما اكتشفته زينب العشري المشرفة على مجموعة confessions of a married woman على موقع فيسبوك، تقول إن الأمر بدا بعد زواجها مختلفا تماما عما كانت تعتقد، وفي إحدى الجلسات تبادلت مع صديقات لها الشكاوى والمشاعر والأفكار فوجدت الكثير من الأشياء المشتركة. بعد أن انتهت الجلسة اتصلت بها صديقة، وقالت إنها كانت تفكر في الطلاق قبل اليوم إلى أن اكتشفت أن ما تعانيه لدى كثيرين غيرها ومنه ما يمكن التعامل معه وعلاجه.
عند تلك النقطة فكرت زينب في بدء عمل المجموعة بشكل مغلق، ومقصور على سيدات متزوجات. تستقبل فيها حكايات وتجارب سيدات متزوجات يرسلنها إليها فتنشرها دون اسم صاحبتها. بحثا عن الفضفضة والتشارك لا الأحكام أو النصح الجاف كانت تلك هي البداية، ما جعلها تستمر وتجتذب عددا كبيرا من العضوات يتشاركن بتجاربهن وحكاياتهم وآرائهن في كل قصة.

ربما يكون الأفضل والأنسب لبعض الشكاوى والقصص ألا تكون لمختصين، أحيانا تحتاج لرأي من مر مثلك بالتجربة، لتشعر أن ما تعيشه ليس حالة نادرة، دون أن يقول لك اتخذ قرارا الآن أو يؤنبك بحكم قاس يدفعك لمزيد من الألم أو التصرفات الخاطئة. تضيف زينب، لكنها تقول إن البعض الآخر من القصص يستدعي تدخلا منها أو المعلقين بالإشارة إلى ضرورة الذهاب إلى مختص في المسألة.

لم تتوقع زينب "الشكل الثقيل" الذي وصل إليها من حكايات، سيدة تحكي عن حبها لزوجها وأسرتهما الصغيرة لكنها تقف عاجزة عن التصرف أمام سلبيته وتوقفه عن العمل وتوليها هي مسئولية كل شيء، وأخرى تحكي عن تغير حياتها بعد الإنجاب في سن مبكرة، وكيف فقدت القدرة على التمتع بحياتها رغم حبها لأبنائها وحرصها على القيام بواجباتها تجاههم. تهمس كل واحدة بين كل سطر وسطر مطالبة من تقرأ بألا تتعجل في الحكم عليها، وأن تتفهم مشاعرها وصعوبة موقفها.

شارك الخبر على