خصوصيات نافرة أو متلاحمة تتمسرح في الانتخابات القادمة؟

أكثر من ٦ سنوات فى تيار

خصوصيات نافرة أو متلاحمة تتمسرح في الانتخابات القادمة؟بقلم جورج عبيد
يغري كثيرًا الكلام على الخصوصيات اللبنانية الطائفيّة منها والمذهبيّة، فهي مادة دسمة للغاية، جذبت الكثير من الكتاب والنقاد التماسًا وغوصًا وقراءة بغية الوصول نحو أجوبة شافية للطبيعة اللبنانية البشريّة بأبعادها السياسية والإنتروبولوجية والاقتصادية. لم يعثر الباحثون والقرّاء على جواب واحد حاز إجماعًا كاملاً، فالتاريخ مسقط (بضمّ الميم وفتح القاف) في جوف البيئات وهو محرّك بها ولا يتحرّك بها، لكونه في كلّ تأريخ يصير جزءًا منها، بل يصير من عناصرها لأنه يتكوّن بها.لم ينفصل الكيان اللبنانيّ يومًا عن تلك الخصوصيّات، فهي إن تلاحمت أو تراكمت كوّنته أو هو مكوّن بها ويجيء من تكوينها أي من هذا التنوّع المرصوف في قلبه والموصوف به والمرصوص في أرضه. الأحداث والمفردات والعناوين كلّها تتحرّك بهذا المركّب، الجغرافيا باتت تعبّر عنه، حتى أنّ المناطق التي تتمازج فيها المكوّنات تحيا الأقليّة فيها في كنف الأكثريّة، فتطغى الأكثرية وتتلاشى الأقلية فتصير مرهونة بقرارها أو وليدة رحمها.الحركة السياسيّة اللبنانية بوضعها الحاليّ وتوقها المستقبليّ نحو قيام انتخابات نيابية في ظلّ اصطفافات حزبية بتحالفاتها أو خصوماتها، غير حائدة عن الحقيقة الجوهريّة بإشعاعها العموديّ وحراكها الأفقيّ. الكلّ فيها باحث عن خصوصيّة جماعته سواءً كانت طائفيّة أو مذهبيّة، وقد تداعى الهيكل الوطنيّ للكيان غير مرّة، ولا يزال متهاويًا حتّى في ظلّ قانون نشأ على النسبيّة لكنّ الصوت التفضيليّ فيه رسّخ الخصوصيّة المذهبيّة أكثّر مما رسخ الأرومة الحزبيّة والرمزيّة لهذا المرشّح أو ذاك. وإذا رمنا الحقّ في التوصيف، فإنّ تمايز لبنان عن سائر البلدان العربيّة سببه الطائفيّة، وهي ليست كلّها سيّئة إذا سمت نحو المعنى الميثاقيّ الكامل والكامن في مضمونه الفلسفيّ-السياسيّ، وتلاقت في الحقّ الوطنيّ كما كتب مرّة الرئيس حسين الحسينيّ في مقدّمة كتاب "قراءة في فكر المطران جورج خضر"، معتبرًا بأنّ الحقّ المسيحيّ والحقّ الإسلاميّ بتآلفهما الحسن يؤلفان الحقّ الوطنيّ والحقّ الوطنيّ يؤلّف الحقّ العربيّ. لقد رأى معظم الباحثين السياسيين المتخصصين في قضايا الشرق الأوسط ولبنان، بأن هذا الأنموذج يمتاز "بالفرادة المتألقة"، إذا أحسن اللبنانيون استعماله وإستدراجه نحو بناء الدولة والكيان وترسيح أنماط الحكم. ويشار في متن القراءة لواقع المنطقة بأنّ الهيكل السوريّ كي يترمّم من جديد يحتاج للخصوصية اللبنانية بمضمونها الإيجابيّ، أي للتسوية اللبنانيّة حيث وكما قال الرئيس حسين الحسيني "الكلّ بحاجة إلى الكلّ".ما معنى أنّ الكلّ بحاجة إلى الكلّ؟ هذا السؤال تجيب عليه وقائع الأحداث في لبنان، ذلك أنّه لم يستطع أحد إلغاء أحد وإقصائه، على الرغم من أنّ طائفة أساسيّة في لبنان تحوّلت بعد إقرار اتفاق الطائف إلى طائفة ممسكة بالقرار السياسيّ والماليّ في لبنان، واستطاعت طائفتان أخريان المشاركة معها في المحاصصة ضمن بنية الدولة، وطائفة أخرى وهي المسيحيّة تحوّلت إلى كيان مستولد ومتلاش ويائس وباحث من جديد لكي يعلو من رتبة المستولَد إلى رتبة الشريك، بقيت الكلّ بحاجة إلى الكلّ في كلّ المراحل التسوية التي عاشها لبنان. ولنا مثال حيّ معيش، ففي سنة 2008 على ضوء أحداث السابع من أيار حصل اتفاق الدولة وبدا الجميع في التسوية التي أفضت إلى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهوريّة بحاجة إلى بعضهم لتكريس تلك التسوية بالذات على الرغم من مساوئها وعلى الرغم مما وصلت إليه البلاد بفعل إنعكاس الأحداث في سوريا باتجاه لبنان، وتسرّب الحركات التكفيرية بانسياب كليّ إلى الداخل ومحاولتها ضرب الكيان اللبناني بضربها للصيغة الحامية له مع صعود الإسلام السياسيّ نحو الذروة وبلوغه أوج المراحل. وظهرت النتيجة فيما بعد بأنّ الكلّ بحاجة إلى الكلّ. وفي لحظات انشداد البلاد نحو الانتخابات الرئاسية وفي الصخب الذي دار حولها، تركّزت التسوية على هذه الصيغة التالية: الرئيس سعد الحريري ينضمّ إلى قافلة المؤيدين لانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة فيضمن وجوده على رأس الحكومة، فتآلف الجميع حول اللحظة فبدا الكلّ بحاجة إلى الكلّ حتى رست التسوية ولا تزال على الرغم من كلّ شيء صامدة.الانتخابات النيابية القادمة لن تكسر تلك القاعدة حتمًا بشكلها الواسع، لكنّ النقاش دائر حول النسبة التمثيليّة للأحزاب الطائفيّة أو داخل الطوائف، بمعنى أنّ النقاش دائر حول ما تمثّله الخصوصيّات في مناطقها بالتشارك فيما بينها أو إذا ما بلغت مبلغ الخصومة. ففي دائرة عاليه-الشوف، أدرك الجميع بأنّ هذه الدائرة قبل أن تنفصل عن المتنين وصولاً حتى البترون والكورة كانت لبنان الصغير، وقد تميّز لبنان الصغير في ذلك الحين بخصوصيتين أساسيتين، المسيحيّة والدرزيّة. لقد رسا الجبل بتعايشهما حينًا وصراعهما أحيانًا، ومعظم المستشرقين وكما أشرنا في مقال سابق لم يميّزوا بين مسيحي ودرزي من حيث العادات واللغة والزيّ والأكل، البيئة كانت واحدة وهي بحضورها واحد. القضيّة ليست في وحدانية تلك البيئة أو تلك أو وحدانية مجموعة بيئات، القضية أن لغة الخصوصيات لم نألفها إلاّ حين تحوّل لبنان الصغير ومن بعده الكبير مسرحًا لتمتين تلك اللغة بالدم الذي أريق على أرضه غير مرّة. السؤال المطروح في معرض النقاش هذا، هل تتميّز دائرة عاليه الشوف بشراكة كاملة ما بين الخصوصيتين أو أنها ستبقى جزءًا خاصًّا لخصوصية واحدة؟ العيش الواحد يتجلّى في حقيقته وجوهره بمبدأ المشاركة الفعلية ولا ينحصر بالتواجد البيولوجيّ للمسيحيين خلوًّا من مشاركة إداريّة وسياسيّة واقتصاديّة لهم. هذا فعليًّا يؤدّي إلى خصوصيتين نافرتين ومتنافرتين وليس إلى انصهارهما في حركة واحدة وجوهر وطنيّ واحد. تبيح مسألة الخصوصيات البحث في العلاقة بين الطوائف اللبنانية ببعديها الداخلي والخارجيّ، المشوبة بالكثير من الشكوك وعدم دخولها في التسليم بيقين واحد ينبلج ضياؤه بفعل "التأليف الحسن" المتفق الأنغام والموحّد الإيقاع فيما بينها، أو الاتفاق السياسيّ بين الجميع على أنموذج راق نستلهمه جميعنا ونستدخله إلى كياننا لننحت به دولة جديدة. لقد كان الأجدر بالجميع أن يتجهوا إلى مشروع انتخابيّ من إثنين، إمّا الأرثوذكسيّ حيث يتحول الصراع ما بين الخصوصيات إلى داخل المكوّن الواحد ضمن النسبية ولبنان دائرة واحدة، أو النسبية ولبنان دائرة واحدة عبر إبطال خطاب الحصوصيات المتنافرة أو النافرة، وتذويبها ضمن الخطاب الوطنيّ-الإنمائيّ، على أن يعتمد مجلس الشيوخ كوعاء ببتحوّل فيه الخصوصيات الطائفية من حالة نافرة إلى حالة منصهرة ومؤتلفة ويقوم المجلس النيابي ضمن المدى الوطنيّ الكامل.لا يعني ذلك بأنّ القانون الحاليّ سيّء بالمطلق، فهو قد يخدم الاستقرار في لبنان لمرحلة وجيزة جدًّا، لكنه لن يخدمه لفترة طويلة، لن يحصّنه مديدًا. من هنا إن الانكباب ضروري في المراحل المقبلة للبحث في مسألة شديدة الخصوبة كيف يمكن تحويل العملية الانتخابية إلى مساحة مشتركة يقف الجميع وسطها على الرغم من التماير السياسيّ يقومون بتحويل لبنان إلى حالة كيانية تتألّف من انصهار المكونات في كيان واحد. ثمّة عناوين يفترض بالجميع أن يبحثوا بها، منها قضيّة اللاجئين السوريين، وقضيّة العلاقة بين لبنان وسوريا، وقضية علاقة لبنان بالعالم العربيّ. الخلاف العمودي ليس فقط بين الطوائف بل بين الطائفة الواحدة وهي المسيحيّة عنوانه الأساسيّ العلاقة اللبنانية-السوريّة وعلاقة لبنان بالصراع الإيرانيّ-السعوديّ. من الضروري الاعتراف بأنّ القيادات السياسيّة تتعاطى مع تلكط الملفات من ضمن ما كان يسميه غسان تويني رحمه الله "الثقافة المتراسيّة"، ثمّة متشددون لا يزالون داخل متاريسهم في مقاربتهم لتلك العناوين ولا يتحررون منها ليخرجوا إلى الضوء إلى فضاء مشترك يلحظ مصلحة لبنان الدولة والكيان كما يلحظ مصلحة إئتلاف الخصوصيات وعدم انجرارها في صراع حول تلك العناوين فتتحوّل إلى خصوصيّات قاتلة على وزن "هويات قاتلة" والتسمية لأمين معلوف. الحوار حول تلك العناوين حاجة ضروريّة واستراتيجية بعيدًا عن الانجرار في رهانات على مصالح تمتص الطوائف وتقودها إلى الأرض الرماد ومن بعدها اليباب. يبقى في الختام بأن الانتخابات النيابية ستكون المسرح لهذه الخصوصيات فإمّا الاتجاه إلى التكامل أو النفور، فالتكامل هو الطريق نحو حقّ لبنان في ان يولد نقيًّا ويعيش اللبنانيون على أرضه بسلام يدفنون حروبهم من أجل الآخرين يبنون معًا دولة الحقّ من أجل غد مشرق ومضيء.
 
 

شارك الخبر على