«زهرة النيلين» هروب تحت نيران المعارك

over 2 years in الإتحاد

أسماء الحسيني، عبدالله أبو ضيف، شعبان بلال (الخرطوم)
طرق طويلة ووعرة سلكها عشرات آلاف السودانيين وهم يتصببون عرقاً دون توقف، غير آبهين بحرارة الشمس الحارقة، فراراً من المعارك الدائرة في عاصمة بلادهم الخرطوم، وهرباً من الموت الذي حصد أرواح الكثيرين في «زهرة النيلين»، للوصول إلى بر الأمان، آملين في العودة قريباً إلى بيوتهم التي تركوها خاوية.الاشتباكات دخلت شهرها الثاني بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مخلفة مئات القتلى وآلاف الجرحى ومئات الآلاف من المشردين والنازحين واللاجئين، وفقاً للأرقام الرسمية المعلنة، لكن يبدو أن الواقع أشد قسوة ومرارة من هذه الأرقام المجردة.رصدت «الاتحاد» قصص شهود عيان، أكدوا جميعاً أن الوضع مأساوي بكل معنى الكلمة، وأن ملايين البشر في السودان محاصرون بسبب هذه الاشتباكات التي آن لها أن تتوقف. ومن طلقات الرصاص، وأزيز الطائرات، إلى الدوريات المسلحة في الشوارع والطرقات، رائحة الموت تنتشر في العاصمة السودانية الخرطوم، ومناطق أخرى، لا صوت يعلو فوق صوت المعارك العنيفة، وهو ما اضطر الشاب السوداني حيدر مثل عشرات الآلاف غيره لترك أسرته وطفله الصغير، انتقل إلى شرق السودان على أمل أن يمارس عمله بشكل طبيعي ليعول أسرته بعد أن توقفت الحياة في منطقته.لم تكن الخطوة الأولى من «الهجرة» الإجبارية كافية لتحقق له ما يريد، فالوضع ليس أفضل مما ترك، فقرر أن يتخلى عن كل شيء خلفه، الأسرة والحياة والسودان، اتجه إلى إثيوبيا عبر معبر حدودي تقوم بتأمينه الأمم المتحدة التي وفرت منطقة آمنة للفارين من القتال.يروي حيدر لـ«الاتحاد» فصول رحلة مأساوية، فقد واجه صعوبة كبيرة في الدخول للجانب الإثيوبي بسبب تعقيدات الإجراءات المفروضة جراء الأوضاع غير المستقرة في السودان.يوجد حيدر في منطقة آمنة مخصصة بعد العبور من السودان إلى الأراضي الإثيوبية، معتبراً ذلك كافياً ليتمكن من ممارسة عمله وتوفير أدنى متطلبات الآدمية ليتمكن من مواصلة الحياة بشكل طبيعي، آملاً في أن تهدأ الأوضاع من جديد خلال الفترة المقبلة بشكل يسمح له وعشرات الآلاف الآخرين للعودة لبلادهم، ولمّ شمل أسرهم الذين تفرقوا في البلاد بسبب القتال.تركنا كل شيءسلطان الثلاثيني، لا تختلف مأساته كثيراً عن حيدر، هو الآخر لم يجد سوى الهروب وترك كل شيء خلفه مع عجزه عن التآلف مع صوت الرصاص الذي لا ينقطع تقريباً، وهو ما جعله يفر من موطنه ويرحل إلى تشاد التي تمثل، بحسب الأمم المتحدة، ثاني أكثر البلدان التي استقبلت النازحين من السودان منذ بدء الصراع الداخلي، باعتبارها الأقرب للحدود، وبالتالي الأسهل للوصول إلى مكان آمن.ويقول سلطان لـ«الاتحاد»، إنه ظل ثلاثة أيام كاملة حتى تمكن من الخروج من السودان إلى تشاد التي كانت الأقرب له جغرافياً، فتمكن من العبور في النهاية إلى خيام، يعتبرها كافية له، على الأقل لأنه لا يوجد صوت للنيران أو أن ينغص عليه أحد نومه بعد يوم جهيد من العمل لتوفير الاحتياجات اليومية. وتعتبر تشاد الوجهة الثانية التي نزح إليها اللاجئون السودانيون بعد مصر، وذكر المتحدث باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لـ«الاتحاد»، أن زهاء 60 ألفًا وصلوا عبر الصحراء إلى تشاد، بما في ذلك حوالي 30 ألفاً خلال الأيام الماضية، موضحاً أن النساء والأطفال وكبار السن والنازحين الأكثر تضرراً. .فيما قال سليم عويس، المسؤول الإعلامي لمكتب «اليونيسيف» الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لـ«الاتحاد» إن المواجهات تقوض جهود «اليونيسيف» في الوصول إلى الأطفال في جميع أنحاء البلاد، بالإمدادات والخدمات المنقذة للحياة.صرخات تتحدى الرصاصيعاني القطاع الصحي في السودان ويلات الاشتباكات المستمرة، حيث أصبح طريق الحصول على رعاية صحية في الخرطوم محفوفاً بالمخاطر.ووسط مأساة الصراع المحتدم في السودان، تجد الحوامل صعوبات بالغة في الرعاية الصحية أو توافر مكان في المستشفيات للولادة. وكشف الدكتور أحمد المنظري، المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، عن أن تقديم الرعاية الصحية في السودان أصبح أمراً بالغ الصعوبة، وفي الخرطوم يعمل أقل من 20% من المرافق الصحية بكامل طاقتها، و60% منها لا تعمل على الإطلاق، ويعوق انعدام الأمن المرضى والعاملين الصحيين من الوصول إلى المستشفيات.وذكر المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لـ«الاتحاد» أن المخاطر لا تزال كبيرة على الصحة في السودان بسبب العنف المستمر والاضطرابات الكبيرة في الرعاية الصحية والهجمات المتكررة على النظام الصحي وضعف الوصول إلى المياه النظيفة والغذاء، إضافة إلى عبء الاضطرابات النفسية التي تصيب الأطفال وصغار السن جراء العنف. وبحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، فإنه منذ بدء القتال في منتصف أبريل الماضي، تعطّلت الخدمات المنقذة للحياة لما يقارب 219.000 امرأة حامل في الخرطوم وحدها. فيما يشهد السودان نقصاً حاداً في الإمدادات الدوائية الضرورية، بما فيها أدوية معالجة مضاعفات الولادة.ويقول معتز - سوداني من سكان الخرطوم- لـ«الاتحاد»: «كنا نترقب (أنا وزوجتي) وصول مولودنا الأول، وأخبرنا الطبيب المتابع للحالة أن وضع الجنين جيد ويمكن خروجه الآن قيصرياً، لكنه يفضل الانتظار قليلاً حتى تتم الولادة بشكل طبيعي، وبالفعل اخترنا الانتظار، لكن الأوضاع انفجرت في البلاد، وأصبحت المستشفيات ومباني العاصمة كافة، بما فيها المنازل، عُرضة للقصف المركز أو العشوائي».ويضيف معتز أن «زوجتي ترقد في الفراش لا حول لها ولا قوة، تعاني وحدها آلام الحمل، وتشعر مثل الجميع بالرعب الشديد على حياتها.. ورعب إضافي على حياة الجنين».وتابع: «تواصلنا مع الطبيب المتابع للحالة، وأيضاً استعد أهل البيت للولادة الطبيعية، بالاعتماد على خبرات نساء العائلة وذكرياتهم مع الولادة ما قبل الطب الحديث».الوضع الآن في السودان حساس جداً وخطير للحوامل، فعمليات الولادة الطبيعية باتت تتم في المستوصفات والمراكز الصحية الصغيرة داخل الأحياء المستقرة نسبياً. أما لو كان الوضع يحتاج لتدخل جراحي فلا مفر أمام الحالة إلا الخروج من العاصمة.في حالات الحوامل يظهر اسم «ود مدني» كحل سحري، فعاصمة ولاية الجزيرة، هي أقرب مكان خارج نطاق الاشتباكات يمتلك مستشفيات مجهزة، ويمكن نظرياً الوصول له. لكن الصعوبة في السؤال الحتمي: كيف يمكن لحامل في الخرطوم السفر براً لمدة تتجاوز أربع ساعات؟ وما حجم المخاطرة في ظل الاشتباكات.حالياً، ينشط الشباب المتمرس بالعمل التطوعي وأفراد لجان المقاومة، في تكوين فرق عمل صغيرة الحجم لتقديم المساعدات للحوامل، عن طريق رصد أفراد لجان المقاومة في كل حي للحالات الحرجة داخله.. وتبليغ المتطوعين ليساعدوا الحالة في الوصول لأقرب مكان شبه مجهز.في قصة أخرى، نجح الشاب خالد (زوجته أنجبت خلال الاشتباكات) في التواصل مع مستشفى ولادة في الجزيرة، وتمكن من استئجار سيارة إسعاف مجهزة. وبعد أكثر من سِت ساعات (50% زيادة عن الوقت الطبيعي) وصل «الإسعاف» إلى مستشفى الولادة، وخضعت زوجته للجراحة القيصرية، لتخرج بعدها وتحتضن وليدها الأول الذي تحدى الموت والخراب وخرج إلى الحياة.لم ينم العاملون في معبري أرقين وقسطل البريين المخصصين لعبور السودانيين إلى مصر طيلة أيام عيد الفطر وقبله وبعده بإجازة أو راحة، ومع ذلك واجهت هند وعائلتها صعوبة كبيرة في البداية بسبب الإجراءات المشددة للمرور، حيث لم تمتلك وأسرتها سوى الماء، فيما استغلت شركات النقل الموقف وضاعفت التكلفة 3 مرات.انتقدت هند في حديثها لـ«الاتحاد» الاستغلال الكبير الذي تعرضت له من تجار وأصحاب شركات النقل السودانيين الذين تولوا نقلهم، حتى إنهم تخلصوا من بعض الأمتعة نظراً لتضاعف أسعار النقل، وأخيراً وصلوا إلى مصر التي اختارها العدد الأكبر من النازحين ويفضلونها لينعموا بالهدوء والاستقرار. في نهاية رحلة شاقة، وصلت هند وأسرتها المكونة من والديها ونجلها الصغير وزوجها إلى النقطة الحدودية المصرية، احتفلوا بالعيد داخل المعبر قبل أن ينتقلوا إلى أسوان داخل الأراضي المصرية، وجدوا الضوء في نهاية النفق، أصبحوا آمنين يعيشون في شقة خصصها مصري مجاناً لأسرة سودانية لمدة تصل إلى 3 أشهر تضامناً معهم في ظروفهم.800 ألف نازحأشارت المنظمة الدولية للهجرة إلى تضاعف أعداد النازحين من السودان منذ بدء الصراع في البلاد، سجلت أكثر من 700 ألف نازح تقريباً، وتتوقع الأمم المتحدة أن يتجاوز العدد في حال استمر القتال 800 ألف شخص، مشيرة إلى أن الوجهة الأولى للنازحين السودانيين هي مصر التي استقبلت وحدها نحو 80 ألف نازح، بينهم 5 آلاف من جنسيات مختلفة.ويعتبر الرقم المرصود إضافياً على النازحين داخلياً في السودان والذين بلغ عددهم نحو 3 ملايين شخص يتركز غالبيتهم في الخرطوم وجنوب وغرب دارفور، ولا تزال عمليات الإجلاء التي تقوم بها دول عربية وغربية مستمرة مع اشتداد موجة القتال الداخلي في السودان منذ أكثر من شهر.لا تنسى أستاذة القانون الدستوري والدولي في الجامعات السودانية الدكتورة زحل الأمين ثلاثة أسابيع قضتها في وسط المعركة تحت قصف الطائرات والمدافع والقذائف في منطقة تتركز فيها المؤسسات والقيادات المهمة في الخرطوم، التي أصبحت بعد الحرب مستهدفة من الجانبين، وتقول: «عشنا في معاناة تامة في ظل انقطاع الكهرباء والماء والاتصالات وعدم إمكانية الحصول على المواد الغذائية والدواء».وتتذكر: «سهرت عشية اندلاع الاشتباكات للعمل في إطار اللجنة المكلفة بصياغة المواد الدستورية للاتفاق النهائي، عدت للبيت في وقت متأخر، استيقظت مفزوعة على صوت الرصاص والمدافع، كان أهم شيء بالنسبة لي أن أطمئن على أبنائي، وطلبت منهم جميعاً العودة إلى البيت في بداية القتال، وجلسنا محاصرين خائفين يسقط الرصاص والدانات في حديقة منزلنا، كنا نخشى أن نجلس بجوار أي نافذة أو جدار، وبعد ثلاثة أسابيع من الخوف والهلع، قررنا المغامرة، والخروج للتوجه إلى أقاربنا في ولاية الجزيرة، الأمر لم يكن سهلاً، غادرت منزلي الذي كنت أحب كل ركن فيه، لم أحمل ملابسي ولا صور أبنائي ولا أبحاثي العلمية ولا جهاز حاسوبي، وتشتت شمل أسرتي، غادرت وقلبي يتمزق على حال وطني وشعبي، وكنا نحلم أن نعبر كل الصعاب، والآن لا ندري أي مصير ينتظره وينتظرنا».أما الأكاديمي السوداني والمخرج التلفزيوني وجدي كامل، فيصف الوضع بالمأساوي، وعن تجربته الشخصية يقول كامل، إن المواجهات باغتته وأسرته رغم أنه كان يشتم رائحتها في الأفق، وبعدها استحالت حياته وأسرته في الخرطوم إلى جحيم لا يطاق، ووجد أن من مسؤوليته إخراج أسرته من مرمى القذائف والدانات التي كانت تسقط في المنازل، قرر وقتها الانتقال بهم إلى أقاربه في أم درمان.ويضيف: رأيت منذ لحظة خروجي من بيتي في كافوري مناظر تقشعر لها الأبدان، في ضوء الدمار الواسع، والنهب المنظم وسرقة البيوت التي خلت من ساكنيها.ويضيف كامل: «قررت بعد ذلك الخروج من السودان براً إلى مصر ببعض أفراد أسرتي، وتعرضنا في الطريق لبعض نقاط التفتيش، لكن الأهالي في شمال السودان من شندي إلى حلفا يضربون أروع الأمثلة في الكرم والشجاعة، فشبابهم يستوقفون عربات الفارين من القتال لتقديم المياه الباردة والعصائر والطعام، ويستقبلون الناس بكل كرم».وأردف كامل: «لكنني وأنا على أعتاب المعبر المصري، تلقيت أفظع الأخبار، وهو خبر إصابة ابنتي ملاذ، البالغة 30عاماً، وهي طبيبة برصاصة في بطنها، وتم عمل عملية لها امتدت 4 ساعات، وهي الآن تتماثل للشفاء في رعاية زوجها وأمها ومعها ابنها الصغير الذي كانت تحمله وقت إصابتها».دمار واسعلم يتمالك رجل الأعمال السوداني محمود عبد الرحيم نفسه، وأجهش بالبكاء، وهو يتذكر المعاناة المريرة التي خاضها مع أسرته وجيرانه خلال شهر من القتال، التي مات فيها أبرياء وأحدثت دماراً واسعاً في السودان، يتساءل عبد الرحيم الذي كان يملك مؤسسات صناعية ومشروعات تجارية كبيرة في الخرطوم عن جدوى هذه الحرب وهذا الخراب، يقول إن القصف استهدف مصنعه للأدوية في الأيام الأولى مع مصانع ومشاريع تجارية كبيرة، لقد دمروا البلد، ويضيف: وبعد معاناة كبيرة وحصار استطعت مغادرة منزلي، وعلمت من جيراني أنه تم احتلاله بعدها مباشرة من قبل مسلحين عاثوا فيه فساداً، ثم خرجت بعد ذلك من السودان في رحلة عذاب كبيرة.تقول روان خليل سودانية تعمل بإحدى المنظمات الإغاثية الدولية في السودان: «إن حجم الكارثة في السودان أكبر بكثير مما تكشفه الأرقام المعلنة عن أعداد القتلى والمصابين، وإن الوضع في الجنينة بغرب دارفور مأساوي وكذلك في الخرطوم».وتضيف روان: «رغم كل الصعوبات والأهوال التي يتكبدها النازحون واللاجئون، فإنه محظوظ من استطاع الهرب والإفلات من براثن الموت المحقق والتدمير الشامل في هذه الحرب التي ليس لها أي كوابح أو ضوابط أو معايير قانونية أو أخلاقية عند الطرفين المتقاتلين».ويقول الأديب السوداني حمور زيادة: «تخيل الحياة من دون كهرباء ولا ماء ولا طعام، ولا حتى اتصالات للاطمئنان على أحبائك، من أراد الخروج من أسرتي للحصول على ما يسد الرمق من الدواء أو الطعام بعد أن خرب انقطاع الكهرباء ما كان موجوداً في البيت واجه المخاطر والمسلحين في كل مكان».أما رشا عوض الكاتبة الصحفية السودانية التي لا تزال تحت نيران الحرب، فتقول: «إن قسوة هذه الحرب اللعينة إنها جعلتنا وجهاً لوجه مع الموت في كل لحظة، يحاصرنا وينتزع منا طعم الحياة آلاف المرات قبل الانتزاع الأخير، عايشنا الخوف والجوع والحرمان والمذلة، عاش السودانيون أوضاعاً صعبة، هناك أشخاص بقوا تحت منزل منهار لا يسمعهم أحد، المصابون بالمغص أو الفشل الكلوي لا أمل عندهم في الوصول إلى مستشفى، الأمهات يعانين بأبنائهن المرضى».وتضيف عوض: «تخيلوا حياة أسرة لها أطفال ومحاصرة في شقة صغيرة في هذا الصيف الحار بلا ماء ولا كهرباء ولا اتصالات ولا طعام، إلى أجل غير مسمى، ولا تملك حتى أجرة سيارة للهرب، ولا يستطيعون حتى المغادرة سيراً على أقدامهم لأن معهم عجائز وأطفال».وأردفت: «إن في هذا الصراع آلاف الروايات والقصص والفظائع وتفاصيل الألم والمرارة التي تفطر القلوب وتنطق بحقيقة واحدة، أن الشعب السوداني هو من يسدد فاتورة هذه الحرب العبثية اللعينة».

Share it on