السقوط الحر للأسواق

أكثر من ٦ سنوات فى الشبيبة

ستيفن س. روتشثلاثة هتافات تشجيعية تستحقها البنوك المركزية! قد يبدو هذا الاستهلال غريبا كونه صادرا عن شخص دأب طويلا على انتقاد السلطات النقدية. لكني أحيي تعهدا تأخر كثيرا من الاحتياطي الفدرالي الأمريكي بتطبيع سياسته فيما يتعلق بسعر الفائدة الرئيسة والميزانية العمومية. كما أوجه إشادة مماثلة لبنك إنجلترا، وكذلك البنك المركزي الأوروبي بعد موافقته على مضض على السير في نفس الاتجاه. إلا أن هذا لا ينفي خطورة واحتمالية أن تكون هذه التحركات أقل مما ينبغي وبعد فوات الأوان.وُضعت السياسات النقدية غير التقليدية للبنوك المركزية ــ وأعني تحديدا الفوائد الصفرية وعمليات شراء الأصول على نطاق موسع ــ في غمار الأزمة المالية خلال الفترة 2008-2009. ولم يعدو الأمر كونه عملية طارئة. ومع استنزاف وإنهاك أدوات تلك السياسات تماما، كان على السلطات أن تبحث عن حلول إبداعية استثنائية في مواجهة الانهيار في الأسواق المالية، لا سيما أن هناك انفجارا وشيكا يتهدد الاقتصاد الحقيقي. ويبدو أن البنوك المركزية لم يكن أمامها خيار سوى عمليات ضخ السيولة الواسعة النطاق، وهو ما يعرف «بالتيسير الكمي».نجحت هذه الاستراتيجية في وقف السقوط الحر للأسواق، وإن كان تأثيرها في تحفيز تعاف اقتصادي فعال ضعيفا، إذ لم يتجاوز نمو اقتصادات مجموعة السبع مجتمعة (وهي الولايات المتحدة، واليابان، وكندا، وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا وإيطاليا) متوسطا سنويا مقداره 1.8% خلال فترة ما بعد الأزمة من العام 2010 حتى العام 2017، وهو ما يقل كثيرا عن متوسط الارتداد البالغ 3.2%، الذي سُجل على مدار مدة مماثلة امتدت ثماني سنوات خلال التعافي في ثمانينات القرن الفائت، ثم مثلها في التسعينيات.للأسف لم يحسن القائمون على البنوك المركزية قراءة مدى فعالية إجراءات السياسات التي اتخذوها بعد العام 2008، وتصرفوا وكأن الاستراتيجية التي ساعدتهم في إنهاء الأزمة قادرة على تحقيق نفس الدَّفعة في تعزيز حدوث ارتداد دوريّ في الاقتصاد الحقيقي. بل إنهم في الحقيقة تمادوا في الاعتماد على مزيج أسعار الفائدة الصفرية والتوسع في الميزانيات العمومية.ويا له من رهان. وفقا لبيانات بنك التسويات الدولية، توسعت أرصـــدة الأصـول المجمعة للبنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى المتقدمة (الولايات المتحـــدة، ومنطقة اليورو، واليابان) بمقدار 8.3 تريليون دولار خلال السنوات التسع الفائتة، ارتفاعا من 4.6 تريليون دولار في 2008 إلى 12.9 تريليون دولار في أوائل العام 2017.لكن هذا التوسع الهائل في الميزانيات العمومية لم يكن له مردود قوي أو مؤثر. فخلال فترة السنوات التسع ذاتها، لم تتعد زيادة الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في هذه الاقتصادات 2.1 تريليون دولار، مما يعني ضخ سيولة فائضة بمبلغ 6.2 تريليون دولار ــ وهو الفرق بين النمو في أصول البنوك المركزية والناتج المحلي الإجمالي الاسمي ــ حيث لم يمتصها الاقتصاد الحقيقي، بل أخذت تتجول في الأسواق المالية العالمية ذهابا وإيابا، حتى شوهت أسعار الأصول عبر طيف المخاطر.إن التطبيع ليس إلا محاولة متأخرة جدا لعلاج هذه التشوهات. فبعد مرور عشر سنوات كاملة على تفجر الأزمة المالية الكبرى، تبدو مسألة نقل محركات السياسة النقدية من إعدادات وضع الطوارئ أكثر من ملائمة. فالعالم الذي يمر بمرحلة تعافي ــ بغض النظر عن مدى ضعف وهزال هذا التعافي ــ لا يحتاج إلى نهج أشبه بإدارة الأزمات في التعامل مع السياسة النقدية.وقد تقبلت السلطات النقدية هذه الحقيقة على مضض، إذ يتركز جل اهتمام وحرص جيل اليوم من القائمين على البنوك المركزية على الالتزام باستهداف التضخم ــ حتى مع خلو عالم اليوم من التضخم. ورغم ابتعاد البندول عن قضية التخلص من التضخم الزائد واتجاهه نحو تحاشي الانكماش، لا تزال قضــية استقرار الأســـعار تمثل الشغل الشــاغل لدوائر البنوك المركزية.ولن يكون من السهل كسر عادة الاهتمام المفرط بالتضخم. ويمكنني أن أشهد على ذلك شخصيا. فلقد عاينت بنفسي، عندما كنت اقتصاديا معينا بالاحتياطي الفدرالي الأميركي خلال الســبعينيات، مولد أزمة التضخـــم الكبير، ودور الممارسات الحمقاء للبنوك المركزية في خلقها. وبعد هذه التجربة، ظللت مقتنعا لسنوات، بل لعقود، أن تجدد التضخم أمر وشيك.يأبى جيل اليوم من القائمين على البنوك المركزية تغيير أفكاره ويتشبث بالطرف المعاكس من طيف التضخم، إذ يتمسكون برأيهم بأن الانحياز لسياسة متساهلة يكون ملائما عندما لا يصل التضخم للمستويات التي يستهدفونها، نظرا لارتباطهم الوثيق بشكل من أشكال عقلية «منحنى فيليبس» مشروطة بعلاقة تبادلية مفترضة بين الركود الاقتصادي والتضخم.هذه هي أكبر مخاطرة نواجهها اليوم، إذ لا ينبغي لنا أن ننظر إلى تطبيع السياسات النقدية على أنها عملية معتمدة على التضخم، ولا ينبغي أن يكون قصور التضخم عن الوصول للمستوى المستهدف عذرا لتطبيع طويل وممطوط. ولكي يعاد بناء ترسانة السياسات استعدادا للأزمة أو الركود المقبل حتما، يستحسن إعادة السياسة النقدية بشكل سريع ومنهجي إلى إعدادات ما قبل الأزمة.كان الإخفاق في تنفيذ هذا الأمر تحديدا المشكلة الرئيسة خلال الفترة التي سبقت الأزمة الأخيرة، وذلك في بداية الألفية الثالثة، عندما ارتكب الاحتياطي الفدرالي أفظع خطأ على الإطلاق. ففي أعقاب انفجار فقاعة الدوت كوم في مطلع الألفية، ومع سيطرة المخاوف الشديدة من تكرار السيناريو الياباني على مناقشة السياسات حينها، تبنى الاحتياطي الفدرالي استراتيجية للتطبيع المتزايد، فرفع سعر الفائدة الرئيسة 17 مرة في قفزات صغيرة متتالية بمقدار 25 نقطة أساس في فترة لم تزد عن 24 شهرا، من منتصف 2004 حتى منتصف 2006. لكن تزايد خلال هذه الفترة تحديدا غرس أسواق المال المليئة بالفقاعات لبذور الكارثة التي كانت على وشك الوقوع.أما في الفترة الحالية، فقد رسم الاحتياطي الفدرالي الخطوط العريضة لاستراتيجية لا تحقق تطبيع الميزانية العمومية قبل 2022-2023 على أقرب تقدير ــ وهي مدة تعد أطول مرتين ونصف إلى ثلاث مرات من المدة التي وضعتها الحملة سيئة التصميم التي شهدها منتصف العقد الأول من الألفية. وفي أسواق اليوم المليئة بالفقاعات، فإن استراتيجية كهذه ستكون مدعاة للاضطراب. أما لو أردنا خدمة هدف الاستقرار المالي، فهناك نصيحة قوية للإسراع أكثر بعملية التطبيع تتلخص في: ضرورة إكمال المهمة في نصف الوقت الذي يقترحه الاحتياطي الفدرالي حالياً.إن البنوك المركزية المستقلة ليست مصممة للفوز بسباقات الشعبية. تلك حقيقة أدركها بول فولكر عندما قاد حملة لمواجهة التضخم الجامح في أوائل الثمانينات. لكن النهج الذي تبناه خليفته ألان جرينسبان، ومن بعده بن برنانكي، كان متباينا تماما ــ حيث سمحا للأسواق المالية واقتصاد معتمد على الأصول بشكل متزايد بالسيطرة على الاحتياطي الفدرالي. أما جانيت يلين ــ أو من سيخلفها ــ فستحتاج لشجاعة كي تشق طريقا مختلفا. لكن يستبعد أن نجد مثل هذه الشجاعة قريبا، لا سيما وأن أكثر من ستة تريليونات دولار من السيولة الفائضة لا تزال تطوف أسواق المال العالمية جيئة وذهاباً.عضو هيئة تدريس في جامعة ييل، والرئيس الأسبقلبنك مورجان ستانلي في آسيا.

شارك الخبر على