حكاية راديو كان يحدثنا ٢

أكثر من سنة فى الإتحاد

كنت أفتقد ذلك الراديو القديم وأتذكره كلما رجعت إلى العين، لكن كنت أعتقد أنه قَدِم وتهالك، حتى قررت مرة أن أتفقده، ولو من باب وداعية لشيء ارتبطت به وأحببته، كانت فرحتي بإنزال الراديو القديم من على السطح المشمس ووضعه في الظل، كفرحتي بوصوله أول مرة، حينما أتى به والدي من الشارقة، وكنت معتقداً أنه خاص بالجيش، فكنت حذراً في التعامل معه في البداية، ظل ذاك الراديو يكح، ويجلب ما يخطر على باله من إذاعات، حتى غادرت إلى أبوظبي، واشتريت أول راديو صغير، والذي كان أكثر نشاطاً من ذاك الراديو الذي يشبه سيارة «بيت فرت»، يومها كنت أتابع من خلاله أول مباراة يخوضها منتخب الإمارات مشاركاً في دورة الخليج في الكويت، واعتبرته فأل سعد لأننا فزنا على البحرين، ظل ذاك الراديو الأسود الصغير ملاصقاً لي، أنام على صوت المقرئ «محمود خليل الحصري» الذي يشبه تسابيح جدي، وأصحو على أغاني فيروز الندية، وتشكل مفردات لبنانية رطبة، بقيت تسافر بالخيال بعيداً، مثل ضياع شادي في الثلج، وتخاريف حَنّا السكران، والبنت الشلبية، والمطر حين يغسل ذلك القرميد الأحمر أو حين يحلّ عصفور على العِليّة، وفي المساء أنتظر حتى تفتح إذاعة لندن التي عرفتني على برامج ممتعة ومسلية ومفيدة، برنامج أدبي شعري اسمه «قول على قول»، وبرنامج يذيع القصص العالمية، وبرنامج موسيقي، وبرنامج يهتم بالثقافة الصحية، ونشرات إخبارية كان يثق فيها الناس، ويصمتون حتى ينتهي من قراءتها ذاك المذيع بصوته الأجش، وهو يتفنن بقوله بعد دقات ساعة «بغ بن»: هنا.. لندن!في ذلك الحانوت العتيق في المدينة الألمانية، رأيت راديوهات كثيرة مختلفة الأحجام والألوان، ليس منها تلك الراديوهات التي اقتنيتها في الصغر، بقيت متأملاً تلك الرفوف وكأنها تحمل شواهد قبور لرجال طاعنين في السن، قد تمسكوا بالحياة حتى أكلت الرِمّة عصيهم التي يتوكأون عليها، وتذكرت كيف ودعت الراديو الصغير الأسود ذات صيف، واستبدلته براديو «ترانزستور» برتقالي بحجم الكف، كان مثل اللعبة البلاستيكية، ولم أوافق على شرائه حتى سمعت منه عشر إذاعات، فقد كنت أعتقد أنه حسب حجم الراديو تخزن في داخله إذاعات، لكنه لم يصمد كثيراً، وتذكرت «رادونا» القديم الذي صَلَته الشمس شهوراً على السطح، ورغم ذاك غنى منذ أن استراح في الظل.كان الراديو في سيارة أبي رفيقاً لنا ونحن نقطع طريق أبوظبي العين أبوظبي، لكن أبي كان يتعبني بالانتقال بين الإذاعات، ومرات يضعها على إذاعات غير صافية أو إذاعة التقاطها ضعيف، وينساها، وتظل تلك الموجات الصوتية تتضارب مع بعضها أو يبقى يقلب على نشرات الأخبار، ولا يثنيه عن ذلك إلا ظهور أغنية لسميرة توفيق فجأة، وكم يكون متأسفاً إذا ما كانت الأغنية في آخر «كوبليه» لها.ظلت تأسرني تلك العادة حين أدخل محل «انتيكات»، أبحث أول ما أبحث عن الراديوهات العتيقة، علّي أجد ما يشبه «رادونا» القديم الذي صَلَته شمس العين حتى كاد أن يهلك، لكنه مع ذلك كان يحتفظ بأغانٍ في صدره، لا يطلقها إلا إذا استراح في الظل، مثلما كان «شوابنا» الأقدمون، تجد الواحد منهم يتبع الظل في مشيته، وبعد فترة تعجبه ظلة باردة ويستريح تحتها، ويطلق أغنيته التي في رأسه.

شارك الخبر على