محمود المردي... قطب الصحافة البحرينية والقلم الذي لن يجف حبره
أكثر من سنتين فى البلاد
ضمن فعاليات الموسم الجديد لمركز كانو الثقافي، أقيمت يوم أمس الأول ندوة بعنوان “محمود المردي.. قطب الصحافة البحرينية”، تحدث فيها كل من رئيس تحرير “البلاد” مؤنس المردي، والصحافية سميرة رجب، وأدارها الشاعر علي عبدالله خليفة وحضرها جمهور كبير من المهتمين.
وفي مستهل الندوة قالت سميرة رجب في ورقتها: إنني لست من جيل الصحافي الكبير الأستاذ المرحوم محمود المردي، وإنما أقدم هذه الورقة على أمل أن أوفي الرجل حقه كعلم من أعلام الصحافة والإعلام في بلادي، كما وجدتها فرصة سانحة لعرض مقاربة موجزة بين الصحافة البحرينية في عهد روادها الأوائل، الذين كان محمود المردي في مقدمتهم بعد عبدالله الزايد، وبين الصحافة التي نعيشها اليوم من جهة أخرى. وبعكس المتعارف عليه أوجز هنا، في بداية ورقتي هذه، خلاصة ما توصلت إليه في بحثي، والتي تؤكد أن محمود المردي قد حفر اسمه في عالم الصحافة البحرينية والعربية الحديثة بجدارة، إذ كان رجلا مثقفا مناضلا، شغوفا بالصحافة، مثابرا في سبيل تشييد هذا الصرح الإعلامي الأهم الذي نجني ثماره اليوم رغم كل المتغيرات، ومن هذا المدخل صار له علينا نحن أبناء البحرين حق وواجب، بأن نبرز اسمه ونوثق ذكراه وأعماله في صفحات تاريخنا البحريني والعربي. وهنا أثني على دعوة عبدالله المدني عندما أطلق على محمود المردي لقب “ملك الصحافة البحرينية”، الذي يستحقه بجدارة.
وأضافت رجب “حاولت أن أوثق بعض المعلومات بشأن المردي من أحاديث بعض من معاصريه، من أبناء جيله أو زملائه في العمل، من أبناء ذلك الجيل البحريني المتحفز والمتطلع للتقدم والمعرفة والبناء، فكان لي حديث مع رئيس تحرير “أخبار الخليج” أنور عبدالرحمن المثقف العصامي الذي رافق المردي خلال آخر عقدين من حياته رغم فارق السن بينهما، وقد حصل منه على الرعاية المهنية كشاب يخطو خطواته الأولى في عالم الصحافة، كما حصل منه على ساعات طويلة من النقاش والجدال في الشأن الثقافي والصحافي. وكان أول وأهم ما سمعت منه هو أن: محمود المردي خلق ليكون صحافيا، وذلك في مقدمة دقيقة للتعريف بصديقه، الذي يؤكد أنه كان شغوفًا بالصحافة، ذا ثقافة معرفية واسعة، محبًا للاطلاع والقراءة والجدال والحوار، مستمعًا جيدًا، لا يتجاهل أصغر المتحاورين معه.
وزادت “من هنا تعرفت على المردي من خلال أهم عناصر الشخصية، التي دعمت عزيمته القوية وإصراره على النجاح في الدور الذي قام به على مدار سنوات طويلة لتشييد الصرح الصحافي الذي يطمح إليه في أصعب الفترات الجيوسياسية التي تميزت بالإدارة الاستعمارية الصارمة، وقمعها لجميع منافذ الوعي والمعرفة والصحافة أمام المجتمع البحريني، بهدف تكريس الأمية والجهل والتخلف؛ وهذه هي سياسات الاستعمار دائمًا في كل بقاع العالم. إذًا ولد محمود المردي ليكون صحافيًا، كما يصفه أنور عبدالرحمن، لذلك أصبح (ملك الصحافة) في البحرين كما وصفه الأستاذ المدني قائلا: ليس لأنه بعثها (أي الصحافة) من الجمود والنسيان فحسب، وإنما أيضا لأنه امتلك شجاعة خوض تجربة كان يعلم مسبقا أنها محفوفة بالمخاطر، خصوصا أن البحرين كانت آنذاك مرتبطة بمعاهدات الحماية البريطانية المقيدة لحرية الرأي”.
بعدها استعرضت رجب تجارب المردي مع الصحافة بدءا من مجلة صوت البحرين ومن ثم صحيفة القافلة مرورا بالوطن والشعلة والأضواء الأسبوعية وأضواء الخليج اليومية وأخبار الخليج والجلف ديلي نيوز، موضحة أن تجربة الأضواء الناجحة كانت مؤشرا واضحا على مدى التغيير الذي طرأ على شخصيته وما وصل إليه من نضج فكري، بعد صراعات عديدة استمرت أكثر من عقدين من الزمن خرج منها جميعا مهزوما، ولكن ليس خاسرا. هزم ليبقي على صحيفة واحدة تعمل وتدار بإرادة خارجة عن إرادة الدولة وسياستها.
من جانبه، قال ابنه مؤنس المردي “عندما نغوص في أغوار فكر محمود المردي نجد أن الصحافة هي عشقه الأبدي، فكان يعشق الخوض فيها وفي دهاليز هذه المهنة المتعبة المليئة بالألغام، وامتدت مسيرته معها عبر 3 عقود متتالية من خمسينات حتى سبعينات القرن الماضي، وكان همه الأساسي وهدفه الأول هو إصدار صحف محلية، وضحى من أجل هذا الهدف بكل ما كان يملك من مال وجهد ووقت خدمة لوطنه، وكان يدرك صعوبة الظرف التاريخي لاسيما من حيث ارتباط البحرين بمعاهدات الحماية البريطانية المقيدة لحرية الرأي، لكنه كان يرى دائمًا أن مملكة البحرين تستحق أن يكون بها صحف يومية كغيرها من الدول العربية، ونجح بالفعل في تحقيق ما كان يسعى إليه وعمل من أجله، على الرغم مما واجهه من متاعب ومشكلات جمة لم تضعف عزيمته، بل قوت إرادته حتى وصل لحلمه بإصدار صحيفة يومية بعد صبر وعناء ومشوار مليء بدروس في الصبر والكفاح”.
وتابع المردي “بدأ محمود المردي العمل في بلاط صاحبة الجلالة في أغسطس العام 1950 عندما أسس مجلة (صوت البحرين)، وشغل منصب سكرتير التحرير، وهذه هي الخطوة الأولى أو المغامرة الأولى بالنسبة له بالصحافة واستمرت حتى العام 1954 عندما أوقفها الإنجليز، وعنها كتب محمود المردي في مجلة صوت البحرين كلمة تحت عنوان (هذه مجلة) والتي اعتبرها كثيرون أهم وثيقة تشرح تحول فكرة إصدار المجلة إلى واقع وصعوبات الطباعة والنشر التي واجهت المجلة”.
واقتبس المردي ما كتبه والده آنذاك بالقول “كانت مجرد فكرة لم نكن نتوقع أن تخرج إلى حيز التنفيذ.. فكرة تداعب أحلامنا منذ أمد طويل. وكنا خمسة: حسن جواد الجشي، عبدالعزيز سعد الشملان، علي التاجر، وعبد الرحمن الباكر، نتجاذب أطراف الحديث، بل الأماني العذاب دون أن تتوافر لنا وسيلة لتحقيقها. تعاهدنا أن نبذل ما في وسعنا لتحقيقها، ووزعنا اختصاصات هذا المجهود فيما بيننا. وإذا براعينا الأمير سمو الحاكم المعظم صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة يبارك الخطوة ويعد بتقديم كل ما يلزمنا من عون وتشجيع. وإذا الشباب يلهجون بالمشروع وقد لمعت أعينهم حماسًا وقلوبهم إيمانًا بحاجتنا المسيسة إلى صوت البحرين”.
ثم تحدث المردي عن المغامرة الصحافية الثانية لوالده قائلا إنها “كانت تتمثل بجريدة (القافلة) العام 1952 في ظل رغبته بإصدار جريدة تهتم بهموم المواطن وتقوم بدورها في نشر الأخبار العربية والعالمية، وقد كتب محمود المردي الافتتاحية وذكر فيها أن رسالة جريدة القافلة هي الوحدة الوطنية وضرورة التضامن والتكاتف وخلق الوعي والضرب على أيدي العابثين بالوحدة وتبيان دور الوطن ودوره الحضاري.
هذه الجريدة قد أنشئت لتكون منبرًا حرًا لآرائهم. ولسنا نقتصر في إطار هذا الحق لقارئنا البحريني فحسب، بل تتعداه إلى جميع قرائنا في البلاد العربية، فما نحن فيها إلا حلقة في سلسلة متصلة، مترابطة تكون في مجموعها”.
وتابع المردي “بالعام 1954 تم إيقاف جريدة القافلة من قبل سلطة الحماية البريطانية؛ بسبب ما كانت تكتبه عن الوجود البريطاني في البحرين، ولكن لم ييأس محمود المردي وأصدقاؤه، بل دفعهم هذا المنع لإصدار جريدة (الوطن) التي صدرت العام 1955، وفي العام 1956 تم إغلاقها بسبب مواقفها المؤيدة خصوصا لمصر وزعيمها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ومناهضته للإنجليز، ومع ذلك لم تنطفئ جذوة الصحافة والرسالة الصحافية لدى المردي، فالاستكانة لم تجد منفذًا في حماسه، فقام بإصدار جريدة باسم (الشعلة) العام 1956 وترأس تحريرها، وأيضا تم إغلاقها بسبب مقال كتبه، وثم أصدر الأضواء الأسبوعية العام 1965 وتوقفت عن الصدور العام 1993، وهي باكورة العمل الصحافي المنتظم في البحرين، وتخرج منها العديد من الأسماء اللامعة في عالم الإعلام والصحافة، ورغم نجاح الأضواء فقد دخل المردي مغامرة جديدة العام 1969 وأصدر أول جريدة يومية في البحرين وذلك تحت مسمى (أضواء الخليج)، وتوقفت في نهاية أبريل 1970، بينما واصلت جريدة الأضواء الأسبوعية في الصدور”.
وفي سياق متصل، أوضح المردي أن حلم والده لم يخب ولم يهدأ، بل وقد تحقق يوم الأحد الأول من فبراير 1976م، بإصدار “أخبار الخليج”، لتكون أول جريدة يومية منتظمة الإصدار في البحرين حتى يومنا هذا دون انقطاع، ومن ثم أصدر “جلف ديلي نيوز” العام 1978، لتكون أول جريدة يومية باللغة الإنجليزية، وما زالت تصدر إلى الآن وترأس تحريرها بجانب أخبار الخليج والأضواء حتى وفاته 20 أبريل 1979.
واختتم المردي حديثه بأن والده وضع الصحافة البحرينية على خارطة الخليج والعالم العربي، وذكر اهتماماته الأخرى كالمسرح والثقافة والأدب وعشقه لرحلات الصيد.
تلى ذلك مداخلات الحضور وفيما يلي أبرزها:
منصور سرحان: هذه الندوة تذكرني بالعام 2002 حين كنت مديرا لإدارة المكتبات العامة بوزارة التربية والتعليم، وتمكنت من جمع جميع الصحف التي صدرت في البحرين منذ الصحيفة الأولى لعبدالله الزايد لغاية صحافة الخمسينات والستينات وإلى العام 2001. وبذلك استطعنا تأسيس أرشيف الصحافة الوطنية، ولكن نقصنا عدد جريدة “الشعلة”، وفي العام 2018 تم عرض هذه النسخة في مزاد واشتراها السيد مؤنس المردي.
وطالب سرحان بضرورة أن تقوم دار “البلاد” برقمنة هذا العدد النادر “العدد الأول والأخير من الشعلة” وحفظه إلى الأبد، ومن ثم نشره على الموقع وطباعة صورة منه وتوزيعه لمرة واحدة فقط؛ فكثير من المثقفين والأدباء يسألون عن هذه النسخة النادرة، التي من المؤكد أنها ستحظى بدراسات وبحوث.
من جانبه، أكد رئيس مجلس إدارة دار “البلاد” عبدالنبي الشعلة، وردّا على طلب سرحان، أنه بالفعل سيتم طباعة صورة من العدد النادر من “الشعلة” ورقمنته وسيتم توزيعه في ذكرى وفاة محمود المردي المقبلة.
وأضاف الشعلة أنه على الرغم من فارق السن بينه وبين محمود المردي إلا أن علاقته كانت وطيدة معه عندما بدأ يكتب في الأضواء، ومن ثم عندما أسس وكالة للإعلان، وكانوا يجتمعون كنخبة من المثقفين والمهتمين في بيت يوسف زباري في البسيتين وأيضا في بيت المرحوم في سترة.
كان للمردي، حسب الشعلة، حضور قوي ومؤثر وكاريزما قوية وثقافة عميقة وحضور طاغ يعكس مرجعيته، وكان يعتبر رمزا لكل من لديه هدف معين في الحياة.
بدوره، وصف يوسف صلاح الدين، المردي بأنه شهيد الصحافة؛ لأنه توفي والقلم في يده وبمكتبه، كما أنه كان معجبا بأسلوب كتابته وتوصيل ونقل أفكار الناس إلى المسؤولين، ناهيك عن أن الأضواء كانت بوتقة حضارية لشعب البحرين.
أما عدنان بومطيع فقد أشار إلى أهمية الاحتفاء بطريقة عملية للمردي والخروج بتوصيات على الأقل، كتسمية شارع باسمه أو تخصيص جائزة نرد فيها الجميل لهذه الشخصية المؤثرة.
وفي السياق ذاته، طالب الملحن أحمد سيف بضرورة إصدار كتاب عن سيرة المردي وإنجازاته ليكون مرجعا للأجيال.