صوت الرواية .. قراءة في «كهف القارئ» لـ كه يلان محمد

almost 3 years in الرأى

تستعين الأجناس الأدبية ببعضها بعضاً في كثير من الأحيان وتتداخل. والرواية من الأجناس الأدبية التي تستعين بغيرها من الأشكال والفنون الأدبية. وهي سمة برزت بشكل كبير على الرواية اليوم أكثر من أي وقت مضى، نتيجة لمتطلبات فرضتها شروط حضارية تتعلق بالكتابة الأدبية.

وإذا كان ميخائيل باختين قد عدّ الرواية جنسا سفليا نبع من الأجناس الأدبية الدنيا ليعبر عن الأوساط الشعبية، فإن الواقع اليوم يفنّد افتراضه. فقد اشمخرّ عرش الرواية وتطورت وأصبحت الجنس الأدبي الأكثر قدرة على استيعاب مشكلات العصر ومسايرة أحداثه، وتصوير الواقع ونقله للقارئ بأساليب مختلفة.

الكاتب والناقد العراقي كه يلان محمد من خلال كتابه «كهف القارئ يتناول مجموعة من القضايا تتعلق بالرواية.

الكتاب مقسم إلى قسمين؛ يتضمن الأول مجموعة من المقالات تطرح العديد من المساءلات حول واقع السرد والنقد ومصير الكتابة الروائية؛ والثاني عبارة عن قراءات نقدية وتحليلات لنصوص روائية مترجمة لكتاب غربيين كلاسيكيين وحداثيين.

وتأكيدا على أهمية الرواية يستشهد المؤلف بقول ميلان كونديرا بأنها حماية لنا من نسيان الوجود، ويحاول أن يبين مدى استفادة هذا الجنس الأدبي من التقنيات الحضارية المتاحة مؤكدا وجود علاقة متينة بين الرواية والصحافة. ويركز على ضرورة تمتع الروائي بالحس الصحافي، وأن يتابع الأحداث التي تنشرها الصحافة للاستلهام من موادها الإخبارية لصياغة حبكة سردية جيدة لنصوصه الإبداعية.

ويعطي المؤلف أمثلة لبعض الروائيين الذين استفادوا من الصحافة في صناعة أحداث رواياتهم، كالروائي الفرنسي فلوبير في «مدام بوفاري»، الرواية التي خلدت اسمه. فقد أخذ قصة بطلته من منابر صحافية حين أذاعت قصة انتحار تلك السيدة.

يرى المؤلف أن الصحافيين الذين كتبوا الرواية نجحوا في ذلك، فالكتابة الصحافية بحسب رأيه تمكّن الكاتب الروائي من اكتساب الخبرة ومسايرة الحدث الراهن، كما في تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قام بتغطية وقائع الحرب العالمية الأولى من قلب الحدث. فهل على الكاتب أن يكون صحافيا ليكتب نصا روائيا ناجحا؟

إذا كانت الرواية الكلاسيكية منغلقة على نفسها، فإن الرواية الحداثية انفتحت على بقية الأشكال والأجناس الأدبية، وأصبح الروائي الحداثي يتوسل بعض التقنيات وتوظيفها في نصه لصناعة الحدث الروائي. ويؤكد المؤلف أهمية هذه التقنيات بالنسبة للنص الأدبي، فاستحضار تقنيات السينما والتاريخ واستخدام تقنيات التعبير النفسي للغوص في بواطن الشخصية باتت من ضروريات الكتابة الروائية، وتوظيف المقولات الفلسفية لإثارة المزيد من الأسئلة الوجودية كالموت ودورة الحياة والخلود، مكّن الرواية بحسب رأي المؤلف من التفوق على الفلسفة، مستشهدا بقول إمبرتو إيكو بأن الروائي يمكن أن يقول أشياء يعجز الفيلسوف عن وصفها. ويضيف بأن انفتاح الرواية على فضاءات متنوعة أسهم في تقويض ثنائية النخبة والعامة.

فهل بإمكان أي شخص أن يكتب نصا روائيا؟ ما المؤهلات التي تجعل القارئ روائيا؟ كيف يكتسب القارئ الخبرة للخوض في تجربة الكتابة الروائية؟

أصبحنا اليوم نسمع عن وجود منتديات لمناقشة تقنيات النص الروائي، و"افتتاح ورشات خاصة لكتابة الرواية يكتسب فيها المشاركون معلومات عن تقنيات السرد... هل تحقق رغبة القارئ في أن يصبح روائيا؟» (ص64).

نتساءل نحن، ما الذي قد تضيفه هذه الورشات للراغبين في كتابة الرواية؟ وهل يُشترط عليهم المواظبة على الدروس الخصوصية ليكونوا روائيين؟ هل يكفي تعلم تقنيات الرواية للمغامرة في كتابة نص روائي مكتمل فنيا؟ وهل يمكن لهذه الورشات أن تصنع من القارئ روائيا؟

القارئ -بحسب المؤلف- عليه أن يتحرر من صفة المستهلك إلى حالة المناقش والمتواصل مع صاحب الأثر الأدبي. فالقارئ عند سعيد بنكراد يعد منتجا للفن من جديد وفق رؤيته الخاصة. وهنا تظهر محدودية الناقد حين يقدم القارئ العادي (البسيط) رأيه حول نص روائي عن طريق الاتصال المباشر مع مؤلف النص عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة اليوم بعيدا عن وساطة النقد.

فهل يمكن للقارئ العادي أن يؤدي دور الناقد؟ وهل يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تحقق للكاتب حضوره بين القراء؟

النقد هو التفاعل مع المعطيات الجديدة والأحداث الراهنة. كه يلان محمد يرى أن النقد أصبح مفرغا من الأدوات التي تمكنه من قراءة النصوص. وإذا كان الروائي اليوم استطاع تطوير تقنيات الكتابة الإبداعية، والرقي بالرواية لتصبح في أول درجة من سلم التصنيف الأجناسي، فعلى الناقد أيضا أن يواكب تطور النصوص الروائية بالتجديد في الأدوات النقدية لتحقيق الديمومة والاستمرار. فما هذه الأدوات التي يقصدها المؤلف والتي يمكن للناقد أن يحافظ من خلالها على مكانته؟

القاعدة النقدية التي يجمع عليها النقاد العرب ويعمل بها أغلب المحللين للنصوص الروائية العربية هي تطبيق المناهج الغربية على تلك النصوص. إذ يتم إخضاع النص العربي إلى أحد تلك المناهج المستوردة من دون مراعاة السياقات التي أُنتج فيها.

وتنادي بعض هذه المناهج بعزل النص عن مؤلفه وعن بيئته، ذلك لأن البيئة الغربية التي أنتجت تلك المناهج تلغي كل المرجعيات. فالإنسان عندهم منذ طفولته ينمو مجردا من انتماءاته بدءا من الانتماء الأسري، فأنشئت مناهجهم تبعا لتلك الحياة، وبالتالي لا يمكن تطبيق تلك المناهج إلا على نص أنشئ في تلك البيئة. لذلك يعجز نقادنا بحسب رأي كه يلان محمد عن تبيئة تلك المناهج داخل الأدب العربي.

يقول الناقد الجزائري محمد خطاب إن عبد الفتاح كليطو في تجربة بحثه في المناهج النقدية الغربية توصل إلى أن الجاحظ في كتابه «الحيوان» استخدم منهجا أطلق عليه «المنهج الضدي القائم»، إذ يراه منهجا منبثقا من الثقافة العربية وأن على الدارسين الاستفادة من هذا الطرح للإجماع على منهج موحد متأصل في ثقافتنا العربية يصلح تطبيقه على النص العربي، بدلا من تطبيق مناهج دخيلة بإمكانها أن تقتل النص العربي وتقضي على كل معالمه وفنياته. فمتى تتوحد الجهود لصياغة منهج نقدي داخل الثقافة العربية يمكن أن يعوَّل عليه في مقاربة النص العربي؟

إنّ مهمة الناقد إنتاج نص ثانٍ للنص الأول، فهل هو -كما يقول كه يلان محمد- مؤلف لم يحالفه الحظ في كتابة نص إبداعي، يحاول تعويض تلك الخيبة بالتحليل والاشتغال على نصوص غيره؟

هناك نقاد كتبوا الرواية ومع ذلك لم يُذكروا كروائيين، وارتبطت أسماءهم بتخصصات أخرى كالفلسفة والنقد مثل سارتر وكيركغارد وإيكو وعبد الملك مرتاض وطاهر بلحيا. والسؤال هنا: لماذا كتب هؤلاء الرواية؟ هل هو من أجل التغيير، أم من أجل تفنيد المقولة السابقة، أم لغايات أخرى؟ هل وُفقوا في ذلك؟ ماذا أضافت تلك الكتابات لرصيدهم المعرفي؟ وما الذي أضافوه للقارئ بهذه النصوص الروائية؟

القارئ في قراءته للرواية كما يرى المؤلف استنادا لرأي كولن ولسن، يبحث عن المتعة ومراكمة التجارب والتعلم. فهل كل ما يُكتب اليوم من نصوص روائية عربية جدير بالقراءة؟ وهل يمكن أن يؤسس القارئ من خلالها قاعدة معرفية صلبة؟ لماذا يكتب الروائي اليوم، هل من أجل الكتابة نفسها، أم أجل النجومية وحصد الجوائز؟

يزداد المنتوج الروائي في المشهد الأدبي العربي على حساب الجودة. يتساءل المؤلف: هل كمية ما يقدمه الكتاب يحقق لهم حضورهم بين الأوساط الثقافية، أم خهي مجرد نجومية مؤقتة ستخبو مع الزمن؟

على القارئ العربي اليوم استحضار الوعي أكثر من أي وقت مضى في إقباله على النصوص الروائية التي تغرق السوق بكثرتها، وهذا الوعي يتشكل من خلال الحضور الفعلي للناقد الذي تقع على كاهله مهمة التوعية والوقوف في وجه الأبواق التي تعتم بدخانها فضاء الرواية.

الروائي العربي اليوم يقود الرواية إلى مصير مجهول بمرأى من الناقد، وبذلك يمكن لها أن تتراجع أشواطا إلى الوراء. فأين هو الناقد؟ لماذا لا يقوم بمهمته كما ينبغي؟ لماذا انحسرت مكانته؟ هل هو إيذان بموت الناقد؟ كه يلان محمد ينذر باقتراب موت الناقد ليحل محله القارئ على اختلاف ثقافته.

يمكن أن يسقط عرش الرواية على يد هؤلاء العابثين الذين يُحسبون عليها بابتعادهم عن كل ما تحمله كجنس أدبي من قيم انسانية. فهل حقا سيخبو صوت الرواية، أم سيظل صوتها عاليا وستبفى تتصدر قائمة الأجناس الأدبية بوجود أقلام أدبية واعية جديرة بالانتساب للرواية تستحق نصوصهم النقد والتكريم والاحتفاء؟

هكذا أراد كه يلان محمد انطلاقا من تصوراته كناقد متبصر في كتابه «كهف القارئ» توضيح بعض الإشكالات التي تتعلق بفن الرواية. إن طرْحه العديد من التساؤلات لم يكن بغرض انتظار إجابة عليها بقدر ما كان يريد تنبيها وتحفيز فئة النقاد والقراء الذين يمتلكون حسا نقديا كي يتوحدوا وتتضافر جهودهم النقدية لمعالجة الخلل الذي يعتري واقع المشهد الروائي العربي عموما. وتحليله نصوصاً عالمية لكتاب كبار والوقوف على نقاط القوة في هذه الأعمال ما هو إلا دلالة على امتلاكه طاقة نقدية جبارة وملكة قرائية متفردة.

Share it on