"كافي" السعودية تدعو إلى العودة للجذور.. لـ"مسرح المقهى"

almost 3 years in الرأى

قدمت أول من أمس مسرحية "كافي" السعودية، على مسرح هاني صنوبر، في المركز الثقافي الملكي، ضمن فعاليات مهرجان الأردن المسرحي في دورته ال (29)، بحضور الفنانين الضيوف من المسرحيين العرب، وأعضاء من نقابة الفنانيين الأردنيين، وغياب كبير لطلبة كليات الفنون في الجامعات الأردنية.

انفتح المسرح على شخصية حائرة تجوب ظلمته، تريد أن تستحضر أشياء وأشياء، للبدء لم يعرفها المشاهد، لكن من الواضح أن هذه الشخصية تمر بمخاضات نفسية نتيجة مواقف قد تكون نفسية أو اجتماعية، أو حتى أحداث صادمة، قد مرت بها، لأن وجه هذه الشخصية كان موّلداً لعلامات كثيرة، كانت مدلولاتها تارةً مندهشة، وتارة ثانية حزينة، وثالثة متفاجئة، وإلى غير ذلك من الأمزجة والهواجس التي طرحتها إيماءات هذه الشخصية، لتنتهي بمزاج محايد راض. عزز من ظهور هذه المعاني السابقة أنغام موسيقى حية اشتغل على توليدها عازف عود، إلى جانب موسيقى منتقاه مسجلة، كانت تعزز مفهوم التفكير والتأمل، والحيرة التي دخلت بها هذه الشخصية، في سبر واقعها، والتي جاءت أحداث المسرحية، توضح تلك الحيرة التي اجتاحت كيانه.

كما وكان مشهد الافتتاح المظلم أيضاً بمثابة لفتة ذكية من المخرج، ليدعو المتلقي للتأمل مع الممثل، إلى القاء محمولاته الذهنية والنفسية، التي راكمها خلال يومه، خارج وعيه، ليستقبل رسائل العرض المسرحي بأريحية واستعدادات ذهنية مناسبتين.

فريق المسرحية الذي يقوده المؤلف فهد رده الحارثي، والمخرج سامي صالح الزهراني، وبشراكة الممثلين ممدوح حميد القشمري، وبدر علي الغامدي، وعبد الرحمن ضيف الله المالكي، وعبدالإله مهنا السحيمي، ومطر زايد الصواط، وعبد العزيز بن مانع أل سالم، وغيرهم من أعضاء الفرقة، هم وحدة واحدة، نتيجة ما راكموا من خبرات خاضوها معا.

وبالتالي جاء الأداء التمثيل الذي حمل محمولات النص الدرامي، بارعاً لجهة طرح جُل تقنياته، بفعل هذه الوحدة والشراكة، التي عهدناها مع هذا الفريق سابقاً بمختلف أعماله، وبالتالي مجيء مسألة فصل هذا الأداء عن شراكة المؤلف الدرامي، ومخرج العرض المسرحي، تعد أمراً تعسفياً.

كما وأن من المعطيات الإيجابية درامياً، لهذه الفرقة حرص الرؤية الإخراجية على استخدام الصورة المسرحية، جزءاً عضوياً من علامات العرض، المتكئة على المنظورات، ولكن ليس المنظور الهندسي الذي يصممه مهندس الديكور لكل مشهد، وحسب.

وإنما من تصميم أداء كتل الممثلين أساساً، ثم من المنظورات الديكورية، والتي أيضاً ظهرت في هذا العرض، المُنشأة من تناغم أداء الممثل وجماليات العناصر الديكورية؛ كتأكيد على أن الشخوص من رواد المقهى أصبحوا جزءاً عضوياً منه، لأن ما طرحته حوارات الممثلين، من مدلولات سياسية واجتماعية وثقافية، هي ما تمور في وجدان الإنسان العربي.

وتضرب هذه الفرقة مثلا جيداً، في إنتاج أعمالها بتعاون جماعي، قلما نجده لدى فرق مسرحية أخرى.

ولذلك تظهر هذه الفرقة بخصوصيات جمالية معينة، كأن يكون الديكور في الأغلب موجوداً لكنه يكون مقنناً في حضوره، ولكنه ثري في جماليات إيحائاته، كما في هذا العرض؛ إذْ تَكون من ستة مقاعد أساساً، وبعض الطاولات؛ التي قدمت استخدامات واستعمالات كثيرة، من حيث توزيع مفرداته في حضور فضاء المقهى، ومنصات للخطابة، ونعش، وإلى غير ذلك من الاستعمالات الأخرى. التي أثثت جمالياته أغلب مشاهد ولوحات هذه المسرحية، التي لم تخل من كوميديا ساخرة.

الأغنية المنتقاة كان تتالي تقديمها، يستدعي فضاءً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً معينا ً، فعلى سبيل المثال للحصر؛ كانت أغنية (أمجاد يا عرب أمجاد..في بلادنا كرام أسيا) من كلمات عبد الفتاح مصطفى، وألحان احمد صدقى، وغناء محمد قنديل؛ تستدعي أجواء الخمسينيات والستينيات، في الوطن العربي بما يمور فيه الشارع من حمى القوميه وبدء تمدد اليسار.

بينما (مسافرٌ زاده الخيالُ والسحر والعطر والظلالُ/ظمآن والكأس فى يديه والحب والفن والجمالُ) من تأليف محمود حسن اسماعيل، وغناء محمد عبد الوهاب، و(طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب..ياما عيون شاغلوني، شاغلوني) من كتابة مرسي جميل عزيز، وتلحين بليغ حمدي، وغناء أم كلثوم،

اللتين استحضرتا أجواء ثقافية معينة.

كما أن الحوارات سخرت من الشعارات القومية واليسارية في تلك الفترة الزمنية، الخمسينيات والستينيات، التي اجتاحت الوطن العربي، كونها طارئة لم تستنبتها مجتمعاته؛ على لسان أحد شخوص المقهى: "اللغة القومية والإشتراكية والملوخية".

فضلاً أيضاً عن تعرية المثقفين الذي تبعوا مستعمرهم ثقافياً سواء من الفرنسيين، والأنجليز، الذين يقيمون معارك دونكشوتية، فيما بينهم فمنهم من يدافع عن مفكر معين منهما، وآخر يتبع منظرا مختلفا عن الأول ويخوض جولات عبر الصحف والمجلات يشغلون (الدنيا ولا يقعدوها)، وهي لا تهم الإنسان العربي لا من قريب ولا من بعيد.

وهناك رسائل كثيرة لم نتطرق لها، تضمنتها أبنية المسرحية العميقة والسطحية، بفعل ضيق مساحة النشر، وبخاصة حيرة المثقف العربي فيما يمور في دواخله من تطلع لامتلاك حرية التعبير لديه، وبين السقوف الحقيقية المتاحة، وبين تسول فرصة عمل لنفسه وعائلته، والتهميش المتعمد من سلطات المجتمع السائدة.

وبعد هذا التحليل والتفكيك لأبنية مهمة من المسرحية، وإعادة تركيبها في المخيال، نجد أن هذا العرض يدعو المسرحيين، إلى أمور ليست بالقليلة، منها الرجوع إلى البساطة، إلى الجذور، فشكل مسرح المقهى الشعبي في حارات المدن العربية، وريث الحكواتي، وخيال الظل، الذي سبق "مسرح المقهى في المدن الأوروبية)، يمكن تطويره ليكون مقبولا للجمهور العريض من المواطنيين، الغائبين حالياً عن المسارح التي يحضرها أهل المسرح والفن فقط.

Share it on