توماس فريدمان إسرائيل التي نعرفها انتهت

أكثر من سنة فى الرأى

أعرب توماس فريدمان عن أسفه للتحالف الديني المتشدد الذي من المرجح أن يصل إلى السلطة في إسرائيل بعد انتخابات الأسبوع الماضي.

وكتب فريدمان في "نيويورك تايمز" مقالة بعنوان "انتهت إسرائيل التي عرفناها"، حاول من خلالها أن يشرح للقراء الأمريكيين تداعيات عودة رئيس حزب الليكود بنيامين نتانياهو إلى جانب المتحالفين معه في حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرف، مشبهاً إياهم بشخصيات أمريكية يعرفهم القراء الأمريكيون.

واستهل فريدمان مقاله بالقول: "تخيل أنك استيقظتَ بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2024، وإذا بدونالد ترامب قد أُعيد انتخابه، واختار رودي جولياني نائباً عاماً، ومايكل فلين وزيراً للدفاع، وستيف بانون وزيراً للتجارة، والزعيم الإنجيلي جيمس دوبسون وزيراً للتعليم، وإنريك تاريو، الزعيم الأسبق لجماعة "براود بويز" اليمينية المُتطرفة، وزيراً للأمن القوميّ، ومارجوري تايلور غرين مُتحدثةً رسميةً للبيت الأبيض. ستظن حتماً أن هذا مستحيل. حسناً، أعد النظر في ظنك هذا".

وأضاف فريدمان: كما ذكرت آنفاً، غالباً ما تكون الاتجاهات السياسية الإسرائيلية مؤشراً لاتجاهات أوسع نطاقاً في الديموقراطيات الغربية، وكثيراً ما تُمثِّل مسرحاً خارجيّاً للأحداث الجارية على مسرحنا السياسي. لقد عقدتُ الآمال على أن حكومة الوحدة الوطنية التي تقلّدت السلطة في إسرائيل في يونيو (حزيران) 2021 ربما كانت أيضاً نذيراً بمزيدٍ من الازدواجية الحزبية هنا. ولكن، مع الأسف أنّ الحكومة انهارت الآن، ويحلُّ محلها حاليّاً واحداً من أكثر الائتلافات اليمينية تطرفاً في تاريخ إسرائيل. فليخلصنا الرب إذا كان هذا نذيراً بما سيحدث في بلدنا!

إئتلاف كارثي

وأوضح فريدمان أن الائتلاف الذي يقوده زعيم حزب الليكود بنيامين نتانياهو إلى السلطة هو المُكافئ الإسرائيلي للحكومة الأمريكية الكارثية التي تخيلها أعلاه. "غير أنّ الحكومة الإسرائيلية حقيقية؛ فهي تحالف من القادة الأرثوذكس المتشددين والسياسيين القوميين المتطرفين، بما في ذلك بعض المتطرفين اليهود العنصريين الصريحين المعادين للعرب الذين كانوا يُعدُّون خارج معايير وحدود السياسة الإسرائيلية تماماً. وبما أنَّه من المستحيل عمليّاً أن يبني نتانياهو ائتلاف أغلبية دون دعمٍ من أولئك المُتطرفين، فيكاد يكون من المؤكد أن يشغل بعضهم مناصب وزارية في الحكومة الإسرائيلية التالية".

وتابع فريدمان: "مع تَرَسُّخ هذه الحقيقة التي كانت عصيَّة على التصور والتخيُّل في الماضي، فهناك سؤال جوهري سيقض مضجع المعابد اليهودية في أمريكا وفي شتى أرجاء العالم: "هل عليّ أن أدعم إسرائيل هذه؟ أم أحجم عن دعمها؟" سيطارد هذا السؤال الطلاب المؤيدين لإسرائيل في حُرُم الجامعات، وسيصعِّب الأمورعلى حلفاء إسرائيل العرب والذي أرداوا إقامة علاقات تجارية فحسب مع إسرائيل، ولم يوافقوا قط على الدفاع عن حكومة هناك معادية للعرب المناوئين لإسرائيل. وسيمثل ضغوطاً على الدبلوماسيين الأمريكيين الذين دافعوا عن إسرائيل بوصفها ديموقراطية يهودية تتقاسم مع أمريكا قيماً، وسيجعل أصدقاء إسرائيل في الكونغرس الأمريكي يفرون من أي مُراسل صحافي يسألهم عمّا إذا كان ينبغي لأمريكا الاستمرار في إرسال مساعدات بمليارات الدولارات لهذه الحكومة المُستلهمة من التطرف الديني".

نتنياهو يقود رفاقه إلى السلطة

لم تشهد هذا المشهد بعد عزيزي القارئ، لأنه ما من قائد إسرائيلي "بلغَ هذا المدى" من قبل، يقول فريدمان: "ساقَ نتانياهو إلى السلطة رفاقُه الذين يرون المواطنين العرب الإسرائيليين طابوراً خامساً لا يمكن الثقة به، والذين أقسموا على بسط سيطرتهم السياسية على التعيينات القضائية، والذين يؤمنون بأن المستوطنات اليهودية لا بد من توسعتها بحيث لا يبقى متر واحد في أي مكان في الضفة الغربية للدولة الفلسطينية، والذين يريدون إدخال تعديلات قضائية يمكن أن تُعطِّل محاكَمَة نتانياهو الجارية بسبب تهم فساد، والذين يُعربون عن احتقارهم لتبني إسرائيل المديد لحقوق مجتمع الميم".

وتابع فريدمان: "إننا نتحدث عن أمثال إيتمار بن غفير الذي أدانته محكمة إسرائيلية عام 2007 بالتحريض على العنصرية ودعم تنظيم إرهابي يهودي. وأقام نتانياهو شخصيّاً تحالفاً بين حزب العَظَمَة اليهودية لبن غفير وبتسلئيل سموتريش، زعيم حزب الصهيونية الدينية، مما جعلهم أكبر ثالث حزب في الدولة، ومَنَحَ نتانياهو الحلفاء الذين يحتاجهم حزب الليكود للفوز بالأغلبية البرلمانية في انتخابات الأسبوع الحالي.

جدير بالذكر أن سموتريش مشهور، من بين أمورٍ أخرى، باقتراح الفصل بين الأمهات اليهوديات الإسرائيليات والأمهات العرب في أقسام الولادة في المستشفيات الإسرائيلية. ولطالما دعا إلى ضم إسرائيل الصريح للضفة الغربية، واحتجَّ بأنه "لا وجود للإرهاب اليهودي" متى تعلَّقَ الأمر بالمستوطنين الذين يثأرون بمعرفتهم الشخصية من أعمال العنف الفلسطينية.

ولفت الكاتب النظر إلى أن نتانياهو سعى على نحوٍ مُتزايد على مرّ السنين إلى الاستفادة من طاقة هذه الدائرة الانتخابية الإسرائيلية للفوز بمنصبه، وهو الأسلوب الذي لا يختلف عن استغلال ترامب للنزعة القوميَّة لدى بيض البشرة، غير أن نتانياهو لم يجلب عنصراً متطرفاً قط – مثل بن غفير الذي يزعم أنه جنح إلى الاعتدال لمجرد أنه أمَرَ مؤيديه بأن ينشدوا "الموت للإرهابيين" بدلاً من "الموت للعرب" – إلى فصيله الحاكم أو حكومته. ولكن، بالتزامن مع انفصال المزيد من حلفاء نتانياهو عنه بسبب سلوكه الإجرامي المزعوم وكذبه، على حد تبرير الكاتب، على نتانياهو أن يبتعد أكثر تدريجيّاً عن التيار الرئيسي للسياسة الإسرائيلية ليحصل على عددٍ كافٍ من الأصوات ليحكم ويسن قانوناً يُبطل محاكمته ويقضي على احتمالات سجنه.

وأوضح فريدمان أن "لدى نتانياهو تربةً سياسية خصبة، بحسب ما فسَّرَ لي ناحوم بارنياع الكاتب في صحيفة يديعوت أحرونوت. فقد كان هناك صعود مفاجئ في وتيرة العنف – ما بين عمليات طعن وإطلاق رصاص وحروب عصابات وجرائم مُنظَّمَة – نفّذها عرب إسرائيليون ضد عرب إسرائيلين، وعصابات عربية إسرائيلية، وجرائم مُنظَّمَة نالت من يهود إسرائيليين، خاصّةً في المجتمعات المُختلطة. والمحصلة أنه، كما في أمريكا بالضبط، بات "عمل الشرطة مشكلة كبيرة في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة"، بحسب تصريح بارنياع. ورغم أن هذا الصعود المفاجئ في أعمال العنف بدأ عندما كان نتانياهو رئيساً للوزراء في السابق، فقد أنحى هو وحلفاؤه المعارضون للعرب باللوم على العرب وحكومة الوحدة الوطنية الإسرائيلية.

كفى.. لقد طفح الكيل

لخَّصَت إحدى اللوحات الإعلانية الانتخابية لحملة نتانياهو الموقف، إذ كانت، كما أفاد مراسل صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية آموس هاريل، "لوحة كئيبة تحمل التعليق التالي: [كفى. لقد طفح الكيل]" وهي تُصوِّر رئيس الوزراء المنتهية ولايته يائير لبيد وشريكه في الائتلاف منصور عبّاس التابع للقائمة العربية الموَّحَّدَة".

وعبّاس هو زعيم الحزب الإسرائيلي العربي الديني البارع الذي يُقرُّ بدولة إسرائيل والأهمية الكبيرة للمحرقة، ويُعدُّ جزءاً من حكومة الوحدة التي انهارت الآن.

وكما قال هاريل: "يبدو أن رسالة [طفح الكيل] أثَّرَت في مؤيدي الليكود والأحزاب الصهيونية الدينية والأحزاب المُتشددة. ويبدو الأمر وكأن الرسالة ساعدت نتانياهو أيضاً على الفوز بانتخابات يوم الثلاثاء". وكتب هاريل أنه من بين العوامل الحاسمة في الانتخابات "كراهية العرب والرغبة في إبعادهم عن المناصب السلطويّة".

غيرَ أنّه مما ساعدَ نتانياهو أيضاً على الفوز حقيقة أنه رغم أن اليمين واليمين المتطرف تحمَّسا بشدة بفعل المخاوف المتزايدة من العرب وانعدام الثقة بهم – سواء من المواطنين العرب الإسرائيليين أو من الفلسطينيين في الضفة الغربية – لم تكن لدى خصومهم من الوسط ويسار الوسط رسالة مضادة مُتجانسة ومُلهمة.

وينقل الكاتب عن بارنياع قوله له: "إسرائيل ليست منقسمة إلى قسمين"، إذ يؤيد 50% منها نتانياهو ويتبنى 50% رسالة واستراتيجية مُوَّحَّدَتين. "لا، إسرائيل مُنقسمة بين 50% ممن يؤيديون نتانياهو و50% ممن يؤيدون حظر نتانياهو. غير أن هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنهم الاتفاق عليه". وقد تجلى ذلك في الانتخابات، ولم يكن كافيّاً.

ما علّة خطورة كل ذلك؟ رَصَدَ موشيه هالبرتال الفيلسوف والأستاذ في الجامعة العبرية المشهد ببراعة إذ قال: على مدى عقود، اعتقدَ أعضاء اليمين الإسرائيلي، وغالبيتهم العظمى من "صقور الأمن"، أنّ الفلسطينيين لم ولن يقبلوا أبداً بدولة يهودية إلى جوارهم، وبالتالي كانت إسرائيل بحاجة إلى اللجوء إلى أي وسيلة عسكرية ضرورية لحماية نفسها منهم.

غير أن التشدد الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، بحسب تفسير هالبرتال "يتحوَّر الآن ويتحول إلى ظاهرةٍ جديدة وضربٍ من القوميَّة المغالية في التشدد" لا ترفض وحسب أي فكرة لدولة فلسطينية، وإنما ترى أيضاً أن كل العرب الإسرائيليين – الذين يمثلون 21% من سكان إسرائيل، ونحو 20% من الأطباء و25% من الممرضين ونحو نصف الصيادلة – إرهابيون محتملون.

وقال هالبرتال: "إننا نشهد تحوُّلاً في اليمين المُتشدد من الهوية السياسية القائمة على التركيز على [العدو في الخارج] – ألا وهو الفلسطينيون – إلى [العدو في الداخل] – ألا وهو العرب الإسرائيليون".

وأضاف هالبرتال أن ائتلاف نتانياهو هاجمَ أيضاً المؤسسات المُستقلة الحيوية التي تدعم الديموقراطية الإسرائيلية والمسؤولة، من بين أمور أخرى، عن حقوق الأقليات، وهي نظام المحاكم الدُنيا ووسائل الإعلام، والمحكمة العليا التي يريد نتانياهو وحلفاؤه إخضاعها للسيطرة السياسية لليمين، "على وجه التحديد كي لا تحمي حقوق الأقليات" بالزخم والنطاق المتاحين لها.

صراع على مستقبل الدولة الإسرائيلة

وفي الوقت عينه، لا تُعدُّ هذه الانتخابات وحسب صراعاً على مستقبل إسرائيل، وإنما هي أيضاً "صراع على مستقبل اليهودية في إسرائيل. إن التوارة تؤيد المساواة بين البشر جميعاً وفكرة أننا كلنا خُلقنا على صورة الرب. وعلى الإسرائيليين من بين جميع الناس احترام حقوق الأقليات، لأننا بصفتنا يهوداً نعرف تمام العلم شعور الأقليات". وأضافَ هالبرتال قائلاً: "وهذه أخلاقيات يهودية عميقة تطعن فيها الآن إسرائيل ذاتها. ولكن، عندما تجد أمامك كل هذه التهديدات الأمنية الجسيمة في الشارع كل يوم، يصبح من الأسهل بكثير أن تُرسِّخ تلك الأيديولوجيات البشعة نفسها".

يقول فريدمان: سيكون لهذا أثر عميق على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. لكن، لا تتعاملوا مع كلامي هذا بوصفه دليلاً دامغاً. ففي 1 أكتوبر (تشرين الأول)، نشرَ موقع "آكسيوس" الأمريكي خبراً استشهد فيه بالمصادر التي ذكرت ما أخبرَ به بوب مينينديز عضو مجلس الشيوخ الديموقراطي عن ولاية نيو جيرسي الذي يقود لجنة العلاقات الخارجية نتانياهو خلال رحلة لمينيديز إلى إسرائيل في سبتمبر. وبحسب كلمات أحد المصادر، حذَّرَ عضو مجلس الشيوخ نتانياهو من أنه لو شكَّلَ حكومة بعد انتخابات 1 نوفمبر (تشرين الثاني) تشمل متطرفين يمينيين، فمن الممكن أن "يؤدي ذلك إلى تراجع جسيم في دعم الحزبين في واشنطن لها".

وهذا هو ما على وشك أن يحدث، بحسب الكاتب، مضيفاً: كنت قد عملتُ مراسلاً من إسرائيل لهذه الصحيفة (نيويورك تايمز) لنحو 40 سنة، وكثيراً ما سافرت برفقة صديقي العزيز ناحوم بارنياع الذي يُعدُّ أحد أبرز الصحافيين في البلد وأكثرهم حصافةً واتزاناً وعنايةً بعمله. وقوله لي منذ بضع دقائق عبر الهاتف إن "لدينا الآن إسرائيل مختلفة" يشي لي بأننا على وشك الدخول في نفق مُظلم حقاً.

شارك الخبر على