في سهول التتار ١

أكثر من سنة فى الإتحاد

كلما زرت الاتحاد السوفييتي سابقاً، وروسياً حالياً، كنت أحض نفسي على الذهاب إلى أرض التتار، لكن الطقس أحياناً يحدّنا، وحيناً الظروف والبعد والمشقة، لكن هذه المرة عقدنا العزم من دون رجعة أن نذهب إلى بلاد التتار أو «تتارستان»، تلك البلاد البعيدة في الجغرافيا، الحاضرة بشدة في التاريخ، خاصة وأن التاريخ لا يعطي دائماً صورة واضحة عن تلك الشعوب التي غزت الشرق، واستولت على كل البلدان التي تقع في طريق زحفها الهمجي، وامتدوا مشرّقين ومغرّبين، في روسيا وكل عواصم أوروبا الشرقية، ووصلوا إلى ألمانيا، وعاثوا في بغداد شراً، حتى ازرقّ نهر دجلة من الأحبار والقراطيس، ثم ارتدوا من غزوهم بعد هزيمتهم في معركة «عين جالوت» على يد «سيف الدين قطز» و«الظاهر بيبرس» وجيوش المماليك مسلمين وأسسوا دولة متحضرة في الهند وغيرها من البلدان التي دخلوها أول مرة عَنوة.هذه صورة التاريخ وما خطّه المؤرخون، وجاءت المسلسلات التاريخية العربية التي كانت تقدم أعمالاً درامية من دون دراسة عميقة لكل تفاصيل الوقت والناس والأمكنة والملابس، خاصة مسلسلات رمضان، فقدمت لنا التتار والمغول من دون أن تفرّق بينهما أو على الأقل تعطينا لماذا هذان المسميان، وأين يلتقيان، وأين يختلفان؟ وحقيقة الأمر أن الفرق بين التتار والمغول مرجعه المنبت والأصل، فالمغول يعودون إلى الصحراء التي تقع جنوب الصين، في حين التتار يرجعون إلى قبائل تركية سكنت في غرب آسيا الوسطى، وانضموا للمغول في القرن الثالث عشر الميلادي، حين امتدت الإمبراطورية المغولية من الصين شرقاً إلى بحر قزوين غرباً، كانت تلك الأفلام والمسلسلات العربية الهشة تعطينا صورة نمطية هزيلة لهيئات هذه الشعوب، صورة مختلفة ومبتكرة، وألصقتها بالذاكرة الطرية للناس، فالمغولي والتتاري دوماً ما يظهر فيها مكتنز الجثة، قصير القامة، وهناك «علعول أو ذيل الحصان» وهي خصلة من الشعر طويلة في منتصف رأسه، وشارباه المقسومان على طرفي فمه فقط، بحيث إذا ما عطس يمكن أن يتطايرا منه، وعينا الواحد منهم في قمة رأسه، يرتدون الجلود، وأزردة الحديد، وأنهم أناس يتقصدون الشر، ويمكن أن يفتكوا بالواحد في أي لحظة، فذهبنا لديار التتار متحزمين، خوفاً من الغدر، وحماية للظهر، وما إن وطئنا سهولهم ومروجهم الخضراء، حتى رأينا ما يسر العين، ويبرّد الخاطر، ويجعل القلب كطائر صغير أبيض يرفرف بالفرح، وخالفتنا ديارهم التي ليست خياماً من صوف، مرتكزة في صحراء جوفاء، فهم من سكان الطين والخشب والمدر، ومن تحتهم تجري أنهار ، ولهم من دنياهم حدائق من عنب وفاكهة وأبٍّ، وأنهم وضّاحو الوجوه، مستبشرون بالغريب، تغلب عليهم الحُمرة، وأجسادهم كالرماح، وأن الجمال يستوطن أراضيهم، إن مرّت الأم أمامك فلا تقدر أن تفرّق بينها وبين ابنتها، وأيهما رضعت حولين كاملين، ثمة صحة وعافية ونشاط ملحوظ على الناس، لا يعرفون التعب، ولا يكترثون بالكسل، فاعتقدنا في بداية الأمر أن هناك خطأ في التاريخ أو أن النسل القديم انقطع في السهوب وبراري الغزوات والحمى أو أن ديموغرافية هذا الشعب تغيرت بفضل الثورة البلشفية، وحكم الشيوعية قرابة سبعين سنة، لم نكن مصدقين وقتها بعد التماسّ الحقيقي مع الناس أننا في أرض التتار، نعيث الديار، ونقطع الفيافي فيها والقفار، وقد طاب المقام بهم، وحلّت الطمأنينة بيننا وبينهم، وأنهم مسلمون، مسالمون، متمسكون بدينهم، قابضون عليه مثل القابض على الجمر، من أرقّ شعوب الأرض وخِيارها.. وغداً نكمل.

شارك الخبر على