أحمد بن محمد القاسمي.. مسيرة ثقافية رائدة
ما يقرب من ٣ سنوات فى الإتحاد
إبراهيم الملاّ
بحسّه الإنسانيّ الراقي، وبملامحه الهادئة وتواضعه، وصمته المكتنز بالرؤى الواعدة والتصورات الطموحة، كان الراحل الكبير الشيخ أحمد بن محمد بن سلطان القاسمي، يضع في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، الاستراتيجيات المُمَهِّدَة لصياغة حالة ثقافية متألقة ومستدامة في إمارة الشارقة بإرثها التاريخي العريق والمتجذّر، والتي اختارت منذ بداية تشكلها كبنية حضارية ملهمة، الرهان على الإنسان وإدراكاته العالية، وعلى الثورة المعرفية الخالصة، وذلك انطلاقاً من الرؤية الحكيمة لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي وظّف فكره المستنير لصالح تطوير العنصر البشري باعتباره بوصلة الفكر وأصل الإبداع.لقد دعم صاحب السمو حاكم الشارقة بقوة وبكل الإمكانات المادية والمعنوية واللوجستية، حلم التغيير والتطوير الاستثنائي للحوكمة الثقافية، وتحويل الإمارة الباسمة إلى منارة إبداعية يستظل تحت أفيائها، ويقتبس من نورها، كل المنتمين لفضاءات الكتابة ومدَيات القراءة ومناخات الفن، سواء من المواطنين أو المقيمين، لأن هذا الهاجس المضيء والواعي والمشترك، كان جديراً بالاحتضان والرعاية والرغبة المتواصلة في تمكينه، وتعضيده، ونقله من ضفة الرغبة إلى شاطئ الفعل، ومن فرضية التمنّي، إلى واقعية التنفيذ.وانطلاقاً من هذا التوجّه النوعي المبكّر بظلاله وأصدائه الملهمة، ظل الشيخ أحمد القاسمي كأول مسؤول رسمي عن الشأن الثقافي بالشارقة، منشغلاً بوضع اللبنات الأولى والقواعد الصلبة لهذا المشروع الضخم والمتجاوز لراهنية الزمن الحاضر، والمكان المحدّد، باعتباره مشروعاً متجهاً بثبات نحو المستقبل بكل تحدياته وتحولاته، حتى تجني الأجيال القادمة ثماره الحقيقية، وحصادَه اليانع.
الإرث الزاهيفقدت الساحة الثقافية بالشارقة والإمارات الشيخ أحمد القاسمي عام 2018، بعد أن ترك إرثاً زاهياً، وبصمة شاخصة في قلوب محبيه ومريديه ومجايليه من مثقفين ومسرحيين وفنانين تشكيلين غرفوا من معينه الإنساني الثّر، والممتد إلى ذاكرة النشأة الثقافية وجذر الطفرة الإبداعية، وخصوصاً أن الشيخ أحمد القاسمي وكما يرد في سيرته المهنية والحياتية، كان من المؤسسين الأوائل لعدد من جمعيات النفع العام بإمارة الشارقة، مثل جمعية الإمارات للفنون التشكيلية عام 1980.
كما تولى رئاسة دائرة الثقافة بالشارقة عام 1981، وكذلك أول معرض للخط والزخرفة عام 1981، وأول معرض للكتاب العربي، وأطلق الموسم الثقافي عام 1982 وساهم في قيام جمعية الاجتماعيين، ودعم تأسيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وجمعية المصورين، ورسّامي الكاريكاتير، وتولّى أمر تأسيس إدارة تلفزيون الشارقة عام 1989، وترأس المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، وأسس عدداً من المهرجانات والملتقيات الثقافية والفنية، مثل مهرجان ثقافة الطفل. واهتم بتنظيم العديد من الأمسيات الموسيقية، وأطلق أيام الشارقة المسرحية، واهتم بتطوير المسرح المدرسي، ودُور العرض السينمائية، كما أسس مع فناني الدولة المعرض التشكيلي السنوي. واهتم باكتشاف وصيانة الآثار، وترميم البيوت والمعالم القديمة، وإحياء التراث المحليّ، وتولى مهمة التواصل مع العديد من المؤسسات والمنظمات الثقافية والفنية العربية والدولية، إلى جانب دعمه ورعايته للكثير من الرموز والطاقات البشرية في ميادين الإبداع والتعبير الجمالي.وكان مسرح الشارقة الوطني قد أصدر في عام 2020 كتاباً وافياً وشاملاً عن الجهد الثقافي الممتد، والتجربة الإنسانية الفريدة للشيخ أحمد القاسمي، ووصفه القائمون على الكتاب أنه «مشكاة ضياء وسيرة عطاء» مستعيدين قدرته على العطاء بصمت، وتميّزه بصفات ترسم معالمها قيمة أعماله ومنجزاته التي تؤسس منهاج عمل راسخاً وفعلاً خلّاقاً. وباعتباره أيضاً نموذجاً حقيقياً لمفهوم العمل الثقافي المتجدّد، وتشير مقدمة الكتاب إلى أن الشيخ أحمد القاسمي نذر نفسه ووقته وجهده في سبيل تأسيس صروح ثقافية وفنية وفكرية تخدم أطياف المجتمع كافة، وأن شخصيته كانت توّاقة للعمل الثقافي، وللنهضة المعرفية، ورغم غيابه فإن أثره ما زال باقياً وناطقاً باسمه ورسمه وحضوره.
توحيد الجهد المسرحيويرد في الكتاب الذي أصدره «مسرح الشارقة الوطني» أن الشيخ أحمد القاسمي أخذ على عاتقه زرع الثقة وروح التحدي في القيادات الثقافية الشابة، مؤكداً في الوقت نفسه بأن المنصب لا يعدو كونه مكاناً لإدارة وتنفيذ مشاريع المستقبل، حتى أصبح هذا المفهوم الإداري الإيجابي منهاج عمل في كافة المؤسسات الثقافية المحلية. وآثر الشيخ أحمد القاسمي أن يكون مراقباً فطناً للمشهد الثقافي ومتابعاً دقيقاً للنشاط المسرحي الذي أحبه وشغف به، فكان حريصاً على مشاركة الفرق المحلية في المهرجانات المسرحية الخارجية، ويمكن اعتبار مسرحية: «الفخّ» هي أولى المشاركات الخارجية للمسرح الإماراتي الوليد حينها، وهي من إخراج الفنان العراقي القدير إبراهيم جلال، وكان الشيخ أحمد القاسمي يطمح من خلال الاحتكاك بالتجارب المسرحية العربية الراسخة والمكرّسة إلى تنمية قدرات الممثلين والفنانين الإماراتيين الشباب، ما أدى لاحقاً إلى تطور وعي هؤلاء المسرحيين المحليين وشحذ أدواتهم التعبيرية وغزارة إنتاجهم، وتنوّع توجهاتهم ومواضيعهم وأساليبهم، سواء في التأليف أو الإخراج أو الأداء المسرحي.ومن المواقف المشهودة للشيخ أحمد القاسمي، تبنّيه مبادرة جمع الفرق المسرحية وتوحيد جهودها لإنتاج عمل مسرحي مشترك، والمتمثل في عرض: «رأس المملوك جابر» حيث جمع فرق: (مسرح خالد، ومسرح خورفكان، ومسرح كلباء الشعبي، ومسرح الشارقة الوطني) عام 1984 تحت إشراف المخرج عبدالإله عبدالقادر، لتجسيد نص الكاتب الكبير سعدالله ونّوس على خشبة المسرح.
إخلاص وتفانٍكما يرد في سيرة الشيخ أحمد القاسمي أنه ما من فنان شاب في أي مجال من مجالات الثقافة والفنون والآداب، ممن عاصروه، وإلا وكان له بصمة واضحة في حياته وتجربته الفنية، سواء من خلال الدعم المباشر أو النصائح الأبوية أو إتاحة الفرص الحقيقية، أو تشجيعه على إكمال الدراسة الأكاديمية، وإن تطلب منه ذلك السفر إلى دول عربية وأجنبية. كما شجع الشيخ أحمد القاسمي الشباب المسرحي على متابعة التيارات الفنية المعاصرة والحديثة، والتعرف على أهم تحولاتها وتقنياتها وجديدها في مجالات الكتابة والإخراج والعرض البصري والأداء الجسدي.لقد وضع الشيخ أحمد القاسمي خريطة طريق نموذجية للارتقاء بالعمل الثقافي، وما نراه اليوم من امتياز إبداعي واحتفاء دولي بما يقدمه أبناء الإمارات في مجالات الأدب والمسرح والفنون التشكيلية والصناعة المعرفية، أسهم في الوصول إليه الشيخ أحمد القاسمي، بمحبّة وإخلاص وتفانٍ، انطلاقاً من سريرته الحانية والرحبة، وانتماءً لضميره الإنساني المتجاوز لكلّ تعيينٍ وقياسٍ وتأطير.
استقطاب الخبرات يتطرق الكتاب الصادر عن مسرح الشارقة الوطني حول المسيرة الثقافية والإدارية الزاخرة للشيخ أحمد القاسمي، إلى أنه كان حريصاً على توفير مناخ مسرحي أكاديمي رصين على المستوى المحلي، يعوّض عدم وجود كليات ومعاهد مسرحية متخصصة في الدولة، وذلك من خلال استقطاب الخبرات المسرحية العربية من أجل إثراء وتطوير وتنمية التجربة المسرحية المحلية.حيث استقطب في عام 1986 المخرج العراقي المتميز «جواد الأسدي» لتقديم دورة تدريبية في مهارات التمثيل، نتج عنها عرض مسرحي مستقل بعنوان: «مقهى بوحمدة» من تأليفه وإخراجه، وكان التمثيل في العرض من نصيب المشاركين في الورشة وهم: (عبدالله المناعي، وأحمد الجسمي، وحسن رجب، وناجي الحاي، وبسام عبدالله، ومحمد عبدالله، وسميرة أحمد، وأحمد الأنصاري)، حيث قدمت هذه المسرحية في مهرجان قرطاج المسرحي في تونس عام 1987 وفاز الممثل أحمد الجسمي بجائزة أفضل ممثل في فئة الهواة، وكذلك فازت الفنانة سميرة أحمد بجائزة التمثيل النسائي في ذات الفئة، فكان للخبرات المسرحية العربية التي استقطبها الشيخ أحمد القاسمي دور كبير ومؤثر في تقوية عود الممثلين والمخرجين الإماراتيين الشباب.وساهم هذا التعاون أيضاً في ظهور جيل من كتاب المسرح الإماراتيين المتميزين، والاهتمام كذلك بمحتويات السينوغرافيا ودلالاتها وتأثيرها في العرض المسرحي، ما أدى في النهاية لظهور جيلٍ مسرحي إماراتي واعٍ ومثقف ساهم بقوة إرادته وحماسه وإبداعه في علوّ كعب المسرح المحلي في مراحل مكثفة ومن خلال أعمال نوعية لفتت أنظار النقاد، وكسبت إعجابهم وتقديرهم في المهرجانات المحلية وفي المشاركات الخارجية.