د. عبدالله الغذامي يكتب النص لقارئه

أكثر من سنة فى الإتحاد

حين طرح رولان بارت مقولة «موت المؤلف» كان سببها تتويج عصر القارئ، وهي فكرة تحيل إلى مفهوم الحرية العامة في علاقة المرء مع المقروء التي هي فرع عن الحرية الفكرية والحرية الذوقية، وكان المتنبي قد لمس هذا المعنى في بيته الشهير:أنام ملء عيوني عن شواردهاويسهر الخلق جراها ويختصموهو يشير إلى «الشوارد» في وصف ينطبق على حال النصوص حين تتحرر من قائليها بمجرد أن تشيع بين الناس، وهو شيوع يحدث استقلاليةً تامةً عن الأصل وبمقدار عظمة النص وقوته التخيلية، فإنه يتحول إلى شاردة تظل تحوم حول مجرات الاستقبال البشري لها عبر الزمان والمكان، ومن ثم سيكون النص لمن يقرؤه، وأي نص تضيق عليه دوائر الاستقبال والمقروئية، فإنه يتقلص لدرجة أن تتناساه الذاكرة الثقافية، ولهذا افتخر المتنبي بأن نصوصه شوارد غير قابلة للتقييد الظرفي أو المعنوي، ومن ثم فسيتخاصم عليها البشر ويسهرون عليها اختلافاً وتنافساً في تصيد أبعادها التي ستظل أيضاً غير قابلةٍ للقيد، ما يجعلهم في خصام متصل حولها، وهذه ميزة ملحوظة في كل النصوص العظمى في تواريخ الثقافات، وهنا تأتي فكرة «موت المؤلف»، لأن المؤلف ينسحب من المشهد في حين ينطلق النص متحرراً من أي سلطة حتى من سلطة صاحبه عليه، لأن النص نفسه يتمرد على الوصاية، وتبعاً لذلك يتعدد النص تبعاً لتعدد قرائه، ولو قلنا: إن نصاً ما تعرض لألف قراءة فسيكون ألف نصٍّ نظراً لتعدد فهوم قارئيه وتغير أزمنتهم وجغرافياتهم، ومن ثم تعدد مرجعياتهم الذاتية، ما يقتضي تنوعاً وتعدد تأويلاتهم للنص، ولا شك في أننا إذ نتذوق المعلقات اليوم، فإننا لا نتذوقها ولا نفسرها كما كان يفعل سامعوها الشفاهيون في عصرهم الأول، وإنما نقرؤها مكتوبةً على الورق، وإذا تحرك بها اللسان فهو يهمس بها ابتداءً، ثم يجهر بها فقط لو اقتضى المقام الجهر، وبين هذه القراءات تتأثر حال النص لتغير الإيقاع الصوتي بين هامس ومجهور، بمثل ما تتغير حال استلهام النص حسب حالة القارئ/ القارئة وسبب توقفهم عند نص ما، كما أن سبب استدعاء النص سيكون ذا تأثير بالغٍ على حال النص، فلو استدعاه نحوي مثلاً، فهذا سيختلف عن حال موسيقار يستحضر النص نفسه لتلحينه ولتحويله لأغنية وإيقاعات منغمة، وهذه ستغير دلالات النص تبعاً لمؤثراته الصوتية أو حالته النحوية عند النحوي، وغير ذلك من حالات الاستدعاء والاستحضار، خاصة حينما نستدعي بيتاً ما لنستعين به للتعبير عنا تجاه موقف قد لا نرغب في قول رأينا فيه صراحةً، فنلجأ للاستشهاد الشعري وكأن ذلك من باب الاستقواء بنص عظيم لشاعر عظيم ليمنحنا سلطةً نتحكم بها في الموقف.وسيكون الاستشهاد قوةً معنوية تزيد من مقام النص وتصنع له حياةً متجددة، وهذا ما نلحظه في محفوظاتنا لأبيات فردية معينة تعم بين الناس لتقوم كسلاح معنوي لا يحضر إلا عبر داعٍ لحظوي يستدعيه بوصفه نجدةً تاريخيةً تستحضره لحظةٌ واقعية، فيتجاور التاريخ مع الواقع ويصنع المعنى العقلي والوجداني، وكلما حضر استشهاد ما حضرت مع الشاهد الشوارد لتتحول لحاضر فاعل، وبعدها يعود الشارد لشروده، وهي لعبة سنراها مع الأبيات المفردة التي تستقل عن نصوصها الأمهات، وتعيش فرديةً في ذواكر الناس مستقلةً بمعناها ومبناها، وتظل فرص حضورها في تبادل مستمر مع غيابها، أي حالة الشرود مع غياب المؤلف وغياب النص الأم، وهنا يكون النص لقائله وليس لقارئه، أي موت المؤلف الذي هو إعلان لشرود النص ودخوله في الشغب الثقافي، حيث يسهر الخلق جراءه ويختصمون فيه وحوله.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على