ماريا ثامبرانو.. الأعماق السّحيقة
ما يقرب من ٣ سنوات فى الإتحاد
بقلم: روبير ماجّيوريترجمة: أحمد حميدة
لقد أدرك بعض الشّعراء النّبهاء أنّ الحنين الذي ينتهبهم، لا يرتبط بزمن الطّفولة فحسب، وإنّما بزمن سابق لكلّ الأزمنة. كما أدرك هؤلاء الشّعراء، أنّ غاية شغفهم بالكلمة، هو جعل تلك الكلمة تستعيد براءتها المفقودة. «ماريا ثامبرانو»
ما بين الظلّ والضّياء، ثمّة فسحة في الغابة وجلاء مصفّى، وثمّة امرأة خجولة وجسورة، تجتثّ الأعشاب البريّة المتوحّشة، دونما عياء أو كلل. إنّها امرأة كتومة وعنيدة، يسكنها أمل مهيب، تسري في أوصالها روح المغامرة، وتؤثر الهمس والكلمات الصّموتة التي تدفع بالصّرخة إلى أبعد الآماد، فلا مقام لماريا ثامبرانو إلاّ هناك، عند فسحة الغابة، حيث تنتصب ما بين المرئيّ واللاّمرئيّ، وهي التي تسنّمت دوماً في الفلسفة الحديثة حيّزاً ما بين «الغموض والشّفافيّة». وإن كانت قد تبوّأت منزلة رفيعة إلى جانب «عظماء إسبانيا» من أمثال الفيلسوفين، خوسيه أورتيغا وميغال أونانيمو، وأحيطت بهالة من التمجيد على إثر حيازتها جائزة سرفانتيس (1988) -فكانت بذلك أوّل امرأة تحظى بمثل ذلك التّكريم- فإنّها لم تحظ مع ذلك، وإلى اليوم، باعتراف عالميّ، غير أنّها لم تبد أيّ امتعاض من ذلك، بل كانت تقول بصدد هذا التّغافل: «إنّه لهوس غير مكتمل ذاك الذي يشعر به إنسان لم يعش، ولو لفترة، بين أشجار الزّيتون، بعيداً عن كلّ شيء وبلا ظلّ».كانت ماريا ثامبرانو، فضلاً عن كتاب «الإلهام الموصول»، قد أهدتنا سنة 1955 مؤلّفاً نفيساً بعنوان «الإنسان والألوهية»، هذا الكتاب الذي عدّه البعض عملاً فكريّاً استثنائيّاً ودرّة ثامبرانو الفلسفيّة. وحتّى وإن حاولنا التّنويه بوجوه نسائيّة أخرى، من إديت شتاين وسيمون فايل، أو استحضار أسماء مفكّرين مرموقين مثل الفيلسوف الألماني إيكارت أو الشّاعر الإسبانيّ المتصوّف سان خوان دي لاكروث، لن نتمكّن من تبديد حالة الإحساس بـ«الاغتراب» التي تثيرها فينا كتابات ثامبرانو. بل قد نشعر ونحن نقرؤها بأنّنا قد غدونا على وشك إخراس كلّ الأسئلة، وبصدد ولوج رحابها في صمت وعلى أطراف الأصابع، خشية إزعاج هذه التي كانت دوماً على قيد التأمّل، وتصلّي لحياة هي الفلسفة ولفلسفة هي الحياة.
الفلسفة النّابضةإلى مثل تلك «الفلسفة النّابضة» كانت تدعونا ثامبرانو، أي إلى فلسفة تنبذ هيمنة العقل والمنطق التّخميني، كما الهندسة ووهم تطويع الواقع لنواميسها، ففلسفة ثامبرانو لا تتقيد بالإثبات والشّرح، وإنّما تسعى إلى «ملامسة» الأغوار السّحيقة للوجود الأصليّ، مستلهمة في ذلك الشّعر والرّوح والجسد و«القلب»، و«الكلمة المتردّدة في الأحشاء»، إنّها تلك الكلمات التي تكون قادرة على كشف الولادات الموصولة، والتي يغدو الإنسان وفقها -وهو المتقلّب بين الفرح والتّرح، بين التوتّر والأمل، بين الارتياع من الموت والانتشاء بالحياة- إنساناً! نحن حينئذ في حضرة فكر موسوم بالنّفي، فكر لا موطن له، فكر مُكره على المضي قدماً إلى الأمام، إلى حيث تكمن «الحكمة الشّعريّة».
الإلهام الموصول ومن ذلك النّفي، الذي شكّل باعثاً لتفكّر لا حدّ له، كما تشهد بذلك كلمات كتاب «الإلهام الموصول»، الذي عامّة ما يغدو فيه المنفيّ «متلَفاً بالتّاريخ»، كانت لماريا ثامبرانو تجربة بالحياة حافلة ومديدة.ولدت ماريا ثامبرانو في 25 إبريل 1904 بمدينة فيليز-مالاغا، وتلقت تعليمها الأدبيّ والفلسفيّ بجامعة مدريد، حيث دأبت على حضور محاضرات كسافييه زوبري وخوسيه أورتيغا. وكانت قد بلغت سنّ السّادسة والعشرين حين نشرت أوّل مؤلّفاتها «آفاق اللّيبراليّة»، ثمّ ساهمت بعد ذلك في عديد المجلاّت الأدبيّة والفلسفيّة، فكتبت عن نيتشه وفيخته، وأعدّت رسالة دكتوراه عن سبينوزا، وفي إسبانيا المحافظة التي كان ينظر فيها إلى المرأة المتفلسفة على أنّها «أنثى ملتحية ومبتدعة وأشبه بوحش السّيرك»، غدت ثامبرانو محاضرة مساعدة لخوسيه أورتيغا، تشغل بمعيّته كرسيّ الميتافيزيقا. وبعد أن تزوّجت من المؤرّخ ألفونسو رودريغز، استقرّت بمدينة سنتياغو في تشّيلي إلى غاية 1937. وكانت كتاباتها خلال تلك الحقبة بالغة الشّراسة في مقارعة الفاشيّة، وفي النّضال ضدّ فرانكو، فكان مآلها النّفي من إسبانيا، وظلّت هكذا خارج وطنها من 1939 إلى 1984. ثمّ كانت أيّام التّيه في المنافي: باريس، كوبا، مكسيكو، بورتوريكو، باريس مرّة أخرى، ثمّ هافانا من جديد، فروما وجنيف... وخلال ذلك التّرحال الذي عدّه البعض بمثابة مراحل لترحّل روحيّ، كتبت ثامبرانو الجزء الأهمّ من أعمالها الفلسفيّة، متناولة مسائل متنوّعة عن العنف وعن احتضار أوروبا، وعن فكر سينيكا وهيدغر وسرفانتس وديكارت وسان خوان دي لاكروث، وفي تلك الأعمال ما انفكّت الهواجس السّياسيّة تتضاءل، لتغدو ماريا ثامبرانو أكثر توقاً إلى ذلك الصّوت الغوير القادر على النّزول إلى أعماق سحيقة.. للعروج بعد ذلك إلى عالم الضّياء.
الأسطورة الخياليّة كانت ماريا ثامبرانو صديقة لأنطونيو ماتشادو وأوكتافيو باث وجوسيه برغامين.. كما عرفت سارتر وسيمون دي بوفوار، فيما أثار فكرها إعجاب أدباء كبار أمثال رونيه شار وسيوران وألبير كامو. ويقال إنّ هذا الأخير، يوم الحادث القاتل الذي راح ضحيّته، كان يحمل في سيّارته مخطوط كتاب ثامبرانو «الإنسان والألوهية». وكان ذلك الكتاب أشبه بـ«سيرة ذاتيّة» للغرب، حيث تناولت فيه ثامبرانو علاقة الغرب بمفهوم التّعالي، مميّزة بين التّعالي الحقيقي والتّعالي المزيّف. وما صرّح به الكتاب، ليس بوسع اللّغة العادية ترجمته، ولا مجال لإدراكه إلاّ بكلمات ثامبرانو وكتابتها هي نفسها.