شهاب الخشاب يكتب الفهامة «٦٧» علم الصور

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

إيه معنى الفن؟ كل واحد مننا بيشوف أعمال فنية بصرية في حياته اليومية، من أول الشخص اللي مالوش في الفن خالص بس بيكتشفه بالصدفة في التلفزيون وفي الشوارع، لغاية اللي بيدرس فنون جميلة وبيقضي أيامه في المتاحف والمعارض عشان يشبّع عينيه بالفن. في جميع الأحوال، الشخص اللي مالوش في الفن والشخص المتخصص بيشوفوا معاني جوة الأعمال الفنية، بس المعاني بتختلف حسب إدراكهم لتاريخ التقاليد الفنية. وحسب تعبير مؤرخ الفن ايروين پانوفسكي، التقاليد دي أساس "علم الصور".

في مقال مشهور عنوانه "وصف الصور وعلم الصور" (Iconography and iconology)، پانوفسكي استلخص قواعد بسيطة لدراسة تاريخ الفن من واقع تخصصه الشخصي في فن العصور الوسطى والنهضة الغربية. دراسة الفن في رأيه هي دراسة معاني الفن مش أشكاله. الشكل عبارة عن مجرد ألوان وخطوط وأحجام يقدر يشوفها أي بني آدم بيشوف، ولكن الأشكال دي في حد ذاتها مالهاش معنى، زي ما لون السماء أو حجم الشمس مالهمش معنى في المطلق.

نقدر نفرّق بين ثلاث أنواع من المعاني حسب پانوفسكي: نوع طبيعي، ونوع عرفي، ونوع ذاتي. المعاني الطبيعية هي المعاني اللي يقدر يشوفها أي بني آدم حسب خبرته اليومية، ومنها معاني واقعية ومعاني محسوسة. واقع الصورة والإحساس بيها بيتغيّر حسب اللي بيتفرج وخلفيته، بس المهم إن في إطار تاريخي معيّن، أي حد يقدر يعرف إن الصورة بتورّي شيء ما وبتعبّر عن مشاعر ما. أما المعاني العرفية، فهي نتيجة العرف الثقافي الموروث اللي بيخللينا قادرين نفرّق بين أغنية لأم كلثوم وأغنية لأصالة مثلاً، أو بين فيلم ليوسف شاهين وفيلم لعاطف الطيب، أو بين تمثال رمسيس وتمثال أخناتون.

الواحد بيقدر يستوعب الفروق دي مع خبرة القراءة والدراسة والتخصص. في المقابل، مش ممكن نفهم المعاني الذاتية بالخبرة أو بالتخصص بس، لأنها بتحتاج قدرة فطرية خاصة بتخللي الواحد يستلخص المبادئ الأساسية وراء أي صورة. القدرة دي هي اللي بتفرّق بين علم الصور (iconology) ووصف الصور (iconography)، أو حتى استيعابها الطبيعي. الوصف الكويس بيجي مع الخبرة والثقافة الكافية، إنما قدرة الواحد على إنه يفهم جوانيات الصور قدرة نادرة حسب پانوفسكي، لأنها بتحتاج لقدر كبير من العلم والفكر والابتكار. عكس وصف الصور اللي بيهتم بتاريخ الطراز الفني وأنواعه فقط، علم الصور بيهتم بالرموز الفنية وتطورها التاريخي.

فمثلاً في صورة أخناتون المشهورة في المتحف المصري، وهو رافع ذراعه للشمس ووراه مراته وبناته، الشخص اللي ماعندوش فكرة عن الفن الفرعوني هيقدر على الأقل يشوف إن الخطوط والألوان والأحجام راسمة شمس ونباتات وأجسام، والأجسام دي بتعبّر عن إحساس ما وبتنتج إحساس ثاني جوة المتفرج. اللي قرأ شوية عن الفن الفرعوني أو درسه هيعرف إن الأجسام دي مرسومة بطراز مميز. إذا دقق في طريقة الرسم، هيشوف إن ده أخناتون ومراته بلا شك، أو على الأقل إن دي رسمة من طراز تل العمارنة. وصف الصورة بالطريقة التقنية دي مهم حسب پانوفسكي، إنما معناها الذاتي أهم. من المعاني الذاتية الواضحة في الصورة دي هي رغبة أخناتون في تقديم ديانة جديدة بتعبد إله واحد إسمه "آتون" ورمزه الشمس الخلاقة الخالدة اللي بتنشر الخير في لأرض عبر أشعاتها.

تعريف المعاني دي مش مجرد حاجة فردية، لأن أساليب الفن وأنواعه ورموزه الواقعية بتحجّم الاستيعاب الفردي حسب پانوفسكي. يعني الواحد بيدرك معنى الفن عبر خبرة يومية وثقافية وذاتية، بالإضافة إلى تاريخ التقاليد الفنية، سواء كان تاريخ الأساليب اللي بتخللي عين المتفرج قادرة تدرك الفرق بين الفن الفرعوني والفن الإسلامي بلا جهد، أو تاريخ الأنواع الفنية اللي بتخللي الواحد يفرّق بين فترة تل العمارنة وباقي العهد الجديد، أو حتى تاريخ الرموز الفنية اللي بتخللي الواحد يفرّق بين عبادة الإله آتون وأي رسمة ثانية للشمس.

مقال پانوفسكي بيلخص تفكير جيل كامل من مؤرخي الفن في القرن التاسع عشر والعشرين، إنما التفكير ده محافظ بدرجة كبيرة. السبب الرئيسي إن پانوفسكي بيفرّق بين الذات والتاريخ، يعني بين الاستيعاب والوصف والتحليل الشخصي للعمل الفني وتاريخ التقاليد الفنية المعروفة الموثوقة. التفرقة دي بتفترض إن فيه أشخاص يقدروا يتغلبوا على الزمن اللي هم عايشين فيه، والأشخاص دول هم اللي يقدروا يحللوا المعاني الذاتية للصور الفنية. في رؤية پانوفسكي، مافيش إلا العالم العبقري اللي حافظ تاريخ الفن كويس من ناحية وعنده قدرة فطرية من ناحية ثانية اللي يقدر يشوف جوانيات الصور أبعد من تاريخها، دوناً عن أي بني آدم ثاني وحتى الفنان الخالق نفسه.

طبعاً عالم الفن عنده خبرة وثقافة بتخللي آرائه متخصصة أكثر من الناس الثانية، بس ده مش معناه إن العلماء – حتى العلماء الشطار– يقدروا يحددوا المعاني الذاتية للصورة بنفسهم. المعاني اللي بيأولها عالم الفن ماهياش أصح من معاني ثانية في حد ذاتها، إنما هي نتيجة تحكّم العالم في المعايير الفنية والتقاليد الفنية الموروثة اللي بتدي ثقل أكبر لكلامه. إذا ممكن نتفق مع پانوفسكي إن معنى الفن جاي من تفاعل بين الرؤية الشخصية والسياق التاريخي، لازم ندرك إن التاريخ ده مش مُنزل ولا العلماء أنبياء، وإن تاريخ الفن نتيجة صراعات جمالية وسياسية واجتماعية بيعيشها الفنان والعمل الفني ومتلقين الفن نفسهم. ففي حالة صورة أخناتون، الواحد مايقدرش يفهم معناها إلا في سياق الثورة الجمالية والسياسية والدينية اللي كان عايز ينجزها الفرعون، ورد الفعل العنيف ضد الثورة دي، اللي انتهت بتدمير تل العمارنة بحالها والعودة إلى الديانة القديمة.

لذلك علم الصور مش ممكن يكون دراسة المعاني الفنية إلا إذا الدراسة دي بتشمل تاريخ الصراعات اللي انتجت المعاني دي، وغير كده الفن مالوش أي معنى.

شارك الخبر على