أم كلثوم والسنباطي.. ثنائي استثنائي

ما يقرب من سنتين فى الإتحاد

سعيد ياسين (القاهرة)
كونت كوكب الشرق أم كلثوم مع الموسيقار رياض السنباطي، واحداً من أشهر وأطول الثنائيات الفنية والإبداعية التي جمعت بين مطربة وموسيقار، خصوصاً وأنهما ارتبطا بعلاقة صداقة خاصة استمرت لأكثر من 40 عاماً، ولحن لها أكثر من 100 أغنية بين الدينية والوطنية والرومانسية والإنسانية، حققت جميعها نجاحاً كبيراً.يجمع مؤرخون وباحثون في الموسيقى على أن ألحان السنباطي حملت رقة طبعه وشعوره المرهف، وكانت  أم كلثوم نفسها هي مستمعه الأول، تشعر بصدق الرسالة وعمق التعبير في ألحانه، وانعكس ذلك على أدائها الذي جعل الجمهور يظن أنها ليست فقط صاحبة الصوت والأداء، وإنما أيضاً الكلمات والألحان، وأن السنباطي وجد في صوتها ضالته المنشودة، فشيّد معها صروحاً موسيقية شامخة.بدأت العلاقة بينهما منذ أن كان عمر رياض 13 عاماً، وأم كلثوم 17، حيث كان والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي صديقاً لوالده المنشد محمد السنباطي، وانتقلت هي قبله إلى القاهرة عام 1922، أما هو، فانتقل عام 1928، وتقدم بطلب ليدرس في معهد الموسيقى العربية، فاختبرته لجنة من ثلاثة من عمالقة الموسيقى آنذاك، واكتشفوا أن قدراته أكبر من أن يكون طالباً، فعينوه بالمعهد أستاذاً لآلة العود والأداء، ولكنه قدم استقالته بعد ثلاثة أعوام، وقرر دخول عالم التلحين.

«على بلد المحبوب» مع تطور أسلوبه وسطوع نجم أم كلثوم، كان لا بد من لقائهما، وهو ما حدث عام 1935 من خلال أغنيتي «أنشودة الربيع»، و«على بلد المحبوب» التي لاقت نجاحاً كبيراً، وتميز فيما فشل فيه الآخرون وهو القصيدة العربية التي توج ملكاً على تلحينها، ولذلك منحته أم كلثوم من بين سائر ملحنيها لقب «العبقري»، ووجد في صوتها ضالته المنشودة، فقدم لها ألحانه لغالبية شعرائها، وفي مقدمتهم أحمد شوقي، وأحمد رامي، وبيرم التونسي، وإبراهيم ناجي.
عام القمةأطلق النقاد على 1946 عام القمة في فن السنباطي الجميل، حيث شهد مولد أغنيتي أم كلثوم، «يا طول عذابي»، و«غلبت أصالح في روحي» التي ردَّ بها على رائعة القصبجي «رق الحبيب»، ورسخت قدميه في تلحين الأغنيات العاطفية الطويلة، وأصبحت له الكلمة العليا فيها خاصة القصائد، فرددها الناس كثيراً وحفظوها، ثم قفز بثلاث قصائد طويلة من أروع ما كتب أحمد شوقي، وهي «ولد الهدى» و«سلوا قلبي» و«نهج البردة»، ثم ابتسم الحظ ابتسامته الكبرى له عام 1947، حيث اختلفت أم كلثوم مع القصبجي وزكريا أحمد وتوقفا عن التلحين لها، فأصبح ملحنها الوحيد بلا منازع.33 أغنية وطنيةلحن السنباطي لأم كلثوم 33 أغنية وطنية، وقال الناقد والمؤرخ الموسيقي الدكتور أسامة عفيفي، إن السنباطي قدم أم كلثوم في «مصر تتحدث عن نفسها» لشاعر النيل حافظ إبراهيم عام 1951، و«مصر التي في خاطري» لأحمد رامي عام 1952، وشارك بكثافة بعد ذلك في المسيرة الفنية الوطنية، وتوقف عند أغنيتي «مثال الوطنية» التي غنتها العام 1954 من كلمات بيرم التونسي، قدم فيها السنباطي لحناً عاطفياً موغلاً في الشرقية والشعبية بدءاً من اختيار المقام، إلى الجمل اللحنية المشبعة بالطرب، وإدماج غناء أم كلثوم مع الكورس بطريقة تفاعلية ناتجة أصلاً عن صياغة النص. وفي أغنية «ثوار» التي غنتها عام 1961، قال عفيفي: استخدم السنباطي شحنة عاطفية هائلة في لحنها وصاغه بطريقة تعانق مضمون الكلمات وتنفذ إلى وجدان المستمع، وقدمه بسلاسة يمكن للجمهور ترديده، وتعد من أفضل ما قدم في قالب الأنشودة، كلمة ولحناً وأداء.

سلسلة أنغام يرى باحثون في الموسيقى، أن أحمد رامي كان رائد الكلمة في أغنيات أم كلثوم العاطفية، وغطت أشعاره من ألحان السنباطي المساحة الأكبر من كيانها الفني، وكانت الألحان دائماً سر الإعجاب الجماهيري الكبير والممتد عبر أجيال دون أن تفقد بريقها أو جاذبيتها، لأصالتها وقربها الشديد من الوجدان العربي الحساس لكل ما هو عاطفي ومليء بالمشاعر. وتوقف الباحثون عند أغنية «دليلي احتار» التي تعد إحدى 5 أغنيات قدمتها أم كلثوم من ألحان السنباطي، تشابهت وكونت سلسلة متقاربة في أنغامها وأسلوبها، وهي «يا ظالمني»، و«دليلي احتار»، و«عودت عيني»، و«هجرتك»، و«حيرت قلبي معاك»، وغنتها خلال 5 سنوات بين العامين 1954 و1959، وشكلت جانباً كبيراً من الشكل العام للموسيقى العربية في تلك الفترة وما بعدها.
خلافات «الأطلال»في كتابه «حكايات وراء الأغاني  زمن الفن الجميل»، كشف الشاعر مصطفى الضمراني قصة تعطل قصيدة «الأطلال» لإبراهيم ناجى لمدة أربع سنوات بسبب خصام وقطيعة بين السنباطي وأم كلثوم التي اعترضت على «قفلة» الأغنية في نهاية «الكوبليه» الأخير «لا تقل شئنا فإن الحظ شاء» وقالت للسنباطى: الطبقة عالية عايزاك تعدلها، فاشتاط غضباً وألقى بالعود على الأرض وخرج مسرعاً من فيلتها متعجباً من موقفها الذي لم يتعوده من قبل وهي التي لم تعترض مرة على نغمة واحدة من ألحانه، وكان الوحيد المستثنى من قاعدة الطاعة الكاملة لكل ما تقوله أم كلثوم، وتمت محاولات الصلح بينهما بشروط السنباطي وغنتها أم كلثوم من دون تعديل، وحققت نجاحاً منقطع النظير.
الأغنيات العاطفيةلحن السنباطي لأم كلثوم عشرات الأغنيات العاطفية والرومانسية، ومنها «الأطلال» التي اختيرت من بين أفضل مئة عمل فني في القرن العشرين، واعتبرت التاج وأروع أغنية عربية في القرن الماضي، و«أراك عصي الدمع»، و«لسه فاكر»، و«حيرت قلبي معاك»، و«أقولك إيه عن الشوق»، و«ليلي ونهاري»، و«من أجل عينيك»، و«حسيبك للزمن»، و«الحب كده»، و«هجرتك»، و«ثورة الشك»، و«قصة الأمس»، و«عودت عيني»، و«دليلي احتار»، و«أروح لمين».

أغنيات دينيةاعتبر الناقد الراحل كمال النجمي في كتابه «سحر الغناء العربي»، أن من يستمع إلى ألحان السنباطي لأم كلثوم يدهشه أن المقامات العربية كانت منذ بدايتها قبل ألفي عام تتضمن كل هذا القدر من العطاء المحبوس في «قمقم» أطلق السنباطي مارده الحبيس، فاغتنى أسلوبه بالتجارب والروائع غير المسبوقة في التاريخ، وأحاط الجملة الغنائية بسياج من المقدمات واللزمات التي تزيدها ثراء وتعبيراً، ولحن العديد من الأغنيات الدينية والروحية، منها: «ولد الهدى»، و«الملك بين يديك»، و«رحاب الهدى»، و«رابعة العدوية»، و«برضاك يا خالقي»، و«على عيني بكت عيني»، و«عرفت الهوى»، و«يا صحبة الراح»، و«حديث الروح»، و«إلى عرفات الله».
«نهج البردة»توقف الناقد والمؤرخ محمد عبدالحميد فايد عند أغنية «نهج البردة» التي لحنها السنباطي في ثلاث ساعات، فاندهشت أم كلثوم، وما إن سمعت اللحن حتى اهتزت مشاعرها وبكت، واعترف السنباطي أنه لم يعرف كيف لحنها؟ وقال: كنت أستمع إلى صوت أو هاتف داخلي وأنا أردد وراءه على عودي ما أسمع، فأنا لم ألحنها وإنما كانت نغماتها كما سمعت الصوت بداخلي، وأكد أنه كان لا يحضر الحفلات، ويستمع لأغنياته بصوت كوكب الشرق من خلال الراديو، ومرة يتيمة قاد الفرقة لأم كلثوم في أغنية «طوف وشوف»، لعلمه أن الرئيس جمال عبدالناصر سيحضر الحفل وأنه معجب بفنه ويود رؤيته.

شارك الخبر على