ولا يزال يوسف إدريس.. حيًّا! (٢ ٣)

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

 قضية الحرية

تشغل القضية الاجتماعية نحو نصف أعمال يوسف إدريس القصصية، إذ تمثل ما نسبته 52% بمعدل سبع وأربعين قصة، تليها القضية السياسية بنسبة 20% تمثلها ثماني عشرة قصة، ثم القضية الإنسانية وتجسمها خمس عشرة قصة بنسبة تبلغ 16%، ثم قضية العلاقة بين الرجل والمرأة في اثنتي عشرة قصة بنسبة 12%، وبداخلها تطرح الرؤية الدينية المشتبكة في ثنايا هذه النصوص بنسبة 4%.

تشكل الحرية كقيمة إنسانية مرتكزا تأسيسيا للرؤية التي تنتظم أعمال يوسف إدريس، وتنضوي تحتها تفريعات وتقاسيم تطرح قضايا الظلم وانعكاساته، وتكشف أزمات الفقر وتداعياته، وتعكس صور القهر الداخلي والخارجي، وتغوص في استثارة الاستلاب بأشكاله وإشكالياته، وهو في كل هذه الأطروحات يحمل من التوتر والتناقض ما يجعله يضع الواقع الاجتماعي موضع المساءلة، باقتحام دوائر المحظورات، وطرح ثقافة الأسئلة في اللا مفكر فيه، وإثارة المسكوت عنه، في جسارة فنية، وبجرأة مضمونية، ورؤية تصطدم بواقع مشحون بالتعارضات والاختلافات يصحبها الشعور بالحاجة إلى إنهاء هذا الخلاف، وإقناع الآخرين بوجهة النظر التي تتبناها الرؤية، تعويضا عن انعدام التوازن في الواقع الراهن، بين الإنسان وعالمه الذي يعيش فيه بخلق صورة جديدة له، وهذا هو جوهر الفن  في أعمال إدريس، ومن ثم فإن تحديد موقفه من الحرية كما تظهر في أعماله، يختزل كثيرا من شواهد رؤيته الكلية.

إنه يؤمن بأن «الحرية غاية وليست وسيلة، كما يحلو لبعض الناس أن يصوروها، وليس هناك بديل للحرية إلا بمزيد من الحرية» و«أن قضية حرية الفنان ليست بحاجة إلي موقف فني من الكاتب بقدر ما هي بحاجة إلى موقف فكري له»، حتى ليمكن القول إن رؤيته للحرية كقضية أوقف عليها فنه وفكره، تكاد ترادف قصة الحرية في أزمنة القص والنص، بحثا وتحققا. ويعبر يوسف إدريس عن موقفه من قضية الحرية في بعدها السياسي في أكثر من مسار، وتبدو أهمية هذه القضية من خلال حرص يوسف إدريس على تحقق أصالة الهوية المصرية. ويظل يوسف إدريس في كل أعماله القصصية مهموما بقضية الحرية الشاملة، فقد تكونت نصوص يوسف إدريس في بنية مجتمعية اجتماعية تاريخية دالة، حيث عاصر فترة قياسية كان المجتمع المصري يعاد تشكيله بنيويا وليس جذريا، أي أن العلاقات الاجتماعية والقيم كانت قيد التغيير.

وقد اتخذت القضية في أعمال يوسف إدريس أبعادا متباينة، فيظهر المسار الأول حين يفقد الفرد حريته في التعبير عن رأيه، وبالتالي يفقد إنسانيته وهويته وشخصيته، كما يتبدى في نصوص: «قصة ذي الصوت النحيل، ومسحوق الهمس، وشيء يجنن، والرحلة». ويتحدد المسار الثاني حين يكون كبت حرية المجتمع وقمعها من السلطة الداخلية، مثلما تصوره قصص «الهجانة، والطابور، والرأس، والعصفور والسلك». ويأتي المسار الثالث حين يقع الوطن تحت قبضة المحتل الأجنبي سيطرة واحتلالا، فيسعى أبناؤه إلى استرداده واستعادته واستقلاله، كما تشير إلى ذلك قصص «5 ساعات، والوشم الأخير، والجرح، وسره الباتع، ومعاهدة سيناء، وحمال الكراسي»، فتشير قصة «الرأس» إلى انحراف معاني الزعامة والرئاسة حين يختل الميزان لديها تحت هوى الإغراءات، فيؤثر على قيادة الجماعة وإدارتها. ويعالج يوسف إدريس أزمة حرية التعبير، التي تؤدي إلى فقدان المعنى الحقيقي للحياة، من خلال طرحها بصوت بطل «قصة ذي الصوت النحيل» كإنسان مقهور الإرادة، لا يجرؤ على أن يرفع صوته ليعلن رأيه ويعبر عن قضيته، يرزح تحت وطأة الكبت السياسي، بعد أن حولته السلطة من شاب في الأربعين إلى عجوز في الثمانين، ليعاني من أزمة حادة، مدمجًا مشكلته الخاصة في المشكلة العامة.

ويرى أن في تغييب الحرية فقدانًا أيضا للانتماء وتفريطًا في الهوية ومسخًا للشخصية، ويؤدي تغييب الحرية إلى إهدار آدمية الفرد، وسحق إرادته، فيصبح مضطرب الفكر مشوش الأسلوب، عزاؤه الوحيد في احتجاجه الذاتي سياسيا على رمز السلطة التي تتعقبه. وتكشف قصة «شيء يجنن» في خطابها عن مجموعة من المفارقات تتبدى في إظهار المقارنة بين عذابات كمية المساجين العاجزين عن تعاطي الحد الأدنى من الحياة، ورفاهية كلبة المأمور «ريتا» التي تنال كل الرعاية، خاصة البحث المضني من مأمور السجن عن حل لأزمة حرمانها الجنسي، وتمكينها من كلب ذي سلالة ليستمر نسلها أصيلا، فيتفرغ هو وإدارة السجن لإجبار الكلب «فارس» الذي يمتلكه أحد السجناء المختلسين على أن تحمل منه ولكن دون جدوى.

وإذا كانت قصة «شيء يجنن» قدمت صورة خارجية للسجن والمساجين، فإن قصة «مسحوق الهمس» تعرض الصورة من الداخل العميق عبر رؤية لسجين سياسي وشاعر، قضيته المحورية هي الحرية، ينظر إليها بأكثر من منظور، فهناك فقدان أكبر من فقدان مصادر الحرية الإنسانية وراء قضبان السجن لا يشعر به إلا من يئن خلفه، كما يروي بطل القصة الذي لا اسم له، وقد أنسي إنسانيته بالاستغراق في دوائر الوهم، ويعتبر أن فقدان الحرية ليس سوى الإحساس السطحي الأول.

ويؤمن يوسف إدريس بالجموع وقوتها، ويتأمل السلوك الجماعي الذى يتجلى أكثر ما يتجلى في المظاهر الوطنية أو في الموالد الشعبية، وكان يؤرقه كيف يأتي الاعتراض من هذه الجموع، كيف ينسجون أساطيرهم، وكيف يختارون أبطالهم، وكيف تتعامل الجموع مع أفرادها النابغين، ولفت نظره أكثر من أي شيء آخر، الأضرحة الكثيرة في كل القرى المصرية، ولاحظ أن بعض هذه الأضرحة يحمل اسمًا واحدًا، لولي واحد، وتساءل كيف يتسنى لشخص واحد أن يدفن في أكثر من مدفن حتى ولو كان وليًّا من أولياء الله، ومن هذا التساؤل ولدت قصته «سره الباتع»، التى جسدت روح الجماعة الشعبية الغامضة التى تختار أبطالا من بين الذين قاموا بعمل وطني بارز كمقاومة عدو أجنبي أو تصدٍّ لظلم حاكم، أو نجدة ضعيف أو أسير. إن الجماعة الهائلة، على بؤس أفرادها، وتفشي الجهل بينهم «هي قوة غامضة شديدة الخطورة، تستمد سلطتها من تركيب حيوي، غير مدرك بعد، وكان يوسف إدريس ينظر لجموع الفلاحين التي تتحرك في مولد شعبي مزدحم نظرته إلى ظاهرة كونية لم تفض أسرارها بعد».

ويرى يوسف إدريس أن الحرية الاجتماعية هي اللبنة الأساسية للتقدم الحضاري لأي مجتمع، حتى لو ارتكب الفرد حرية الخطأ فمن حقه أن يخطئ، ففي قصة «حالة تلبس» وردت هذه الرؤية على لسان عميد الكلية الذي يعتقد في أن «مشكلة المجتمع الأساسية أن أفراده يحيون في عصر بتقاليد قرون مظلمة مضت، وأن بلاده لا يمكن أن تصل إلى أي تقدم علمي أو صناعي أو حضاري إلا إذا تم التحرر وعاش الناس فيه بتقاليد عصرهم نفسه وقيمة وأنواع حرياته، بإعطاء أفراده حتى حرية الخطأ، وألا نمنعهم بالنصح والزجر عن خوض التجارب ونورثهم صوابنا وخطأنا، بل نتركهم لكي يستخلصوا هم من تجاربهم ما يرون أنه الصواب وما يرون أنه الخطأ». (القصة، ص 11).

وتكشف قصة «الطابور» إيمان يوسف إدريس بحركة الجماهير، من خلال التعبير عن قوة الجماعة، كرمز موضوعي تشي به القصة بحكايتها وخطابها، فالناس يكسرون القيود التي تعوق حركة حياتهم اليومية، ويتصدون بالحيلة لأية مناورة سياسية أو اقتصادية أو أمنية لمن تسول له نفسه استغلالهم والتعدي على حرياتهم.

 وتتخذ الحرية الاجتماعية بعدًا أكثر اتساعًا حين تضيق الرؤية الجماعية، وتقصر داخل إطار محدود «إننا لم نعد أحرارًا في رؤيتنا، أصبحت أنظارنا قصيرة موجهة إلى ما تعرفه أو إلى ما تود معرفته، أي أننا لم نعد نرى ما ينعكس من داخلنا إلا ما يعكس اهتماماتنا وتفكيرنا وأحلامنا، فقدنا تلك القدرة البكر على تلقي ما هو خارج النفس كما هو، بروعته وتلقائيته وعمقه وبساطته والانفعال له أو عليه». (معجزة العصر، ص81).

 تدعو أعمال يوسف إدريس إلى الحرية في جانبها الشخصي وحق ممارستها بلا حواجز ولا قيود، من خلال عرضه أنماطًا إنسانية تسعى إلى الحياة، فتكسر الجدران التي تحول دون الانطلاق، سواء بالفعل الذاتي أو الفعل المحرم، كما تعبر عن ذلك قصص «حالة تلبس، والأحرار، وأحمد المجلس البلدي، ومحطة، ودستور يا سيدة، وأكبر الكبائر، وقاع المدينة، والنداهة والعملية الكبرى».

وتمارس الفتاة في قصة «محطة» حرية الحب بالتعرف على شاب في مثل سنها داخل الأتوبيس أمام الناس، غير عابئين باستنكار أصحاب العيون التقليدية المختلفة، لاقترابها من بعضهما البعض بالكلمات والنظرات، وقد تم التعارف بينهما والاتفاق على موعد، ضاربين برأي أحد الركاب الذي كان يراقبهما واحتج منفعلا حتى إنه اعتبر أن «القيامة ح تقوم، والله يمكن قامت فعلا، لازم القيامة قامت». (القصة، ص18).

وتبدو حرية الفعل الذاتي مشروعة لتحقيق التوازن داخل الإنسان حتى لو كان فعلا محرما، كطبيعة بشرية تخطئ وتصيب، فمسألة الصواب والخطأ مسألة نسبية، ولذلك تتمتع كثير من شخصيات قصص يوسف إدريس بقدرتها على ممارسة حرية الخطأ، وتحمل نتائج الفعل، فما كان لبطلة قصة «دستور يا سيدة» إلا أن تفعل ما أرادته من جراء العلاقة المحرمة مع شاب في الثامنة عشرة «ولو كان هو ملاكا وكانت هي قديسة، ولو كان الجزاء الموت حرقا أو فوق خازوق، ولو اجتمعت الدنيا كلها لتوقف قوة الجذب الخارقة لوقفت عاجزة، فما يحدث كان في الواقع سره من سر الحياة، وقوته من قوتها».

ولم تتقبل فتحية في «النداهة» واقعة الاغتصاب من الأفندي القاهري، إلا كشفًا للمجهول الذي ظل يراودها ويهاتفها بعمق ولا يتوقف منذ وجودها في القرية، واستمر معها في قلب المدينة، في قاعها وفي قمتها على حد سواء، فقد أرادت دخول التجربة بنفسها، واحترقت بإرادتها، وعندما قرر زوجها العودة إلى القرية غافلته وهربت بمحض إرادتها لا تلبية لنداء خفي أو نداء نداهة. ورغم كل المحاولات المستميتة التي بذلها الشيخ عبد العال في الابتعاد عن شبح الغواية في قصة «أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور» فإنه وقع في المحظور، وصعد ضعيفا مستسلما لتنتصر الغواية على الهداية. 

وتكمن حرية الفرد في رؤية يوسف إدريس القصصية في أنه إنسان يفعل ويفكر ويخطئ ويصيب، ولكل شيء سبب يتبعه سبب، ونتيجة قائمة على أفعال إنسانية إرادية، بضعفها وقوتها، وشجاعتها وجبنها، وصلابتها وليونتها، وخطئها وصوابها، نابعة من رؤية واقعية لعلاقة الفرد بالمجتمع بمعناها الواسع، وبكل ما يحتويه من سياقات اجتماعية وأطر ثقافية، وما يحكم هذه العلاقات من منظومة قيمية، فالدكتور الحديدي بطل قصة «لغة الآى آى» هو الذي اختار حياته، ورسم حركته فيها، وحدد هدفه، وانساق وراء طموحه، حتى وصل إلى القمة، وهو الذي قضى حياته يجري ويلهث لكي يصل إلى القمة كما تسمى، كان عليه أن يظل يصعد ولهذا كان يصادق، أو تضمه المجموعة، لا لكي يستمتع بصداقتها ومرافقتها، وإنما على أساس سرعتها وعلى اعتبار أنها أسرع من المجموعة التي هجرها، ويظل سائرا معهم ما داموا يسيرون بنفس السرعة التي يريدها، حتى إذا أحس أنه بحاجة إلى سرعة أكبر هجرهم إلى مجموعة أخرى، أو سار بمفرده كي لا يعوقه معوق، وما توقف مرة كي يواسي متخلفا أو يأخذ بيد أعرج، معتبرا أن ليس الذنب ذنبه أنه تخلف، أو أنه خلق أعرج. وظل يسرع ويسرع لكي يبدأ الحياة حين يصل، ولكن لم يكن للوصول نهاية كما يعترف.

وللحديث بقية..

alafifi56@gmail.com

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على