النوم في الصحراء

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

نستلقي جميعا على ظهورنا ليلا، على الرمال التى لا تزال دافئة، أصحابا وأغرابا وعابري سبيل، ننظر إلى النجوم وسط الصحراء. النجوم هي البطل، وليس القمر الذى يسيطر باستحياء على ليل المدن. أستغرق في النوم وربما يصدر مني غطيط دليل الراحة الكاملة والاستسلام. تتغير الدائرة ويدخل أناس ويخرج آخرون، إلا أنني لا أفقد الاتصال بكل ما يدور حولي من أحاديث. ربما لا يصل الكلام كاملا، وإنما تصلني فى نومي صوتيات منفصلة، تفصل المعنى عن الكلمة، تتحول الكلمة إلى صوت صاف مضغوم، نغمة، حرف صوتي يجد مكانه ويتسلل ويعبر جدار النوم إلى مركز السمع فى العقل الباطن المستيقظ على الدوام.

 

                                                ***

 

هناك سلم موسيقي للأصوات فى الصحراء، موسيقى كونية تخرج من شبكة الممرات السماوية المضيئة. رنين متقطع يفصل بينه فترات زمنية كبيرة نسبيا، تجسِّد هذا الصمت الذى يسكن الكون، هذا الفراغ الأسود الكبير الذى تتناثر فيه حبيبات الضوء. هناك وسط هذه السماء المضيئة والمسالمة، شىء يسقط فى هوة بلا عودة، المعنى والكلام والنجوم المضيئة نفسها. وحدة غير قابلة للملء. سلم موسيقي لبيانو فقد أصابع أساسية منه، ولكن فى النهاية لا بد وأن يكتمل اللحن، عبر هذه الفجوات المستطيلة. موجات متفرقة من الغبار السماوي تملأ السماء، مثل فستان سهرة كوني من الكتان الخفيف مرصع بحبات من النجوم.

 

                                              ***

الاستغراق فى النوم ليس غيابا عن...، بل اتصال بعالم آخر يقف على تخوم هذا النوم، بتلك الشبكة من الغبار، والتى تسقط فيها كل أعمال الحياة الأساسية وهوامشها المنسية. يتحرر اللا وعي وينشط اتصاله بعالم متسق ومتجاوز كامن بداخلنا، ونملك مفتاحه، وشفرة الدخول إليه بالاستغراق. بالاستغراق فى أي شيء: الحب أو النوم أو البحث أو التأمل. أن نغيِّب تماما، لبعض الوقت، المكان الاجتماعي، الذي جئنا منه؛ لنستعيد المكان الآخر الذى يرافق حياتنا دون أن نراه، ذلك الجسد المنسوج من غبار الصوتيات والنبرات والوحدات الصغرى التى انفصلت عن الجسد الأم.

 

                                                ***

ينام صديقي البدوي كل يوم تحت شبكة الممرات السماوية المضيئة هذه. يستيقظ مع سقوط أشعة الشمس على وجهه، عند أول ظهور لها، يشرئب برأسه ليرى الحياة بينما هي أيضا، فى الوقت نفسه، تشرئب برأسها وتطل عليه من عليائها. هذا التواقت الظاهر بين زمنين، ربما يمنحه الثقة فى كل شىء، فى الطبيعة، والكون، والنجوم ومساراتها، والأقدار التى تختبئ بين هذه الحبيبات المضيئة. يقوم صديقي البدوي باحثا عن الطعام، فيذهب لحديقة مجاورة فى الصحراء، ليسد جوعه المبكر. يعود بحبات البلح والجوافة والعنب، الطعام غير الدسم الذى يليق بالجنة التى تخيلناها دون أن نلمسها، يليق بموسيقى الكون النباتية ذات الإيقاع المتفاوت فى قوته وصمته، التي تتخللها العديد من الثقوب السوداء.

 

                                             ***

ربما صورة النجوم التى تظهر أمامي الآن فى قبة السماء العظيمة هى صورة لنجوم انتهت تماما في زمن لم يصل إلينا بعد، طبقا لقانون النسبية، لكون انتهى ولم يتبق منه سوى هذا الضوء المسافر نحو فنائه. ما زلنا نتعثر فى بدايات هذا الكون المنتهي. هذا السطح من النجوم والغبار الكوني، هو الغلالة الخارجية البراقة لهذا الكون المنتهي، بينما داخله مظلم تماما.

 

                                           ***

ربما الصحراء، وشبكة الممرات السماوية المضيئة من فوقها؛ تشبه صورة اللا وعي/ لا وعينا الذى فنى، وانتهى. كأن اللا وعي، الذي يمتلئ بحبيبات ضوئية وأحداث وعقد نفسية؛ أيضا هو صورة من اختراعنا، أو أن زمنه ليس زماننا. إنه يسبقنا بمراحل، وعندما نلمس نجمة مضيئة منه تكون طاقتها قد نفدت واحترقت، عندها فقط تظهر هشاشة الصورة التى صدقناها. لقد حاصرنا أنفسنا بكل ما حملناه وقلناه وتخيَّلناه وتمنَّيناه وامتلكناه وبدَّدناه وعانيناه وكتبناه وأحببناه. نحن الذين ثبَّتنا كل هذا، بينما اللا وعي متلاش وذائب ومتغير وملىء بالهاويات وبالثقوب السوداء التى تمتص تلك النجوم النفسية المحترقة. هذه الشبكة السماوية من الممرات المضيئة ما هي إلا صورة "لا وعينا" الأشقى والأبهى. ما زلنا نقيم حياتنا وأفراحنا وأحزاننا داخل هذه الطبقة الرقيقة جدا، فى هذا العالم المضىء الذي لم يعد موجودا.

 

                                         ***

السماء تجردنا من علاقاتنا الدنيوية، من قراباتنا، من أولادنا، من آبائنا، من أحبائنا، من كل شىء، لتستفرد بنا كوحيدين، نتناغم مع هذا السياق الذي لا يقبل إلا الوحدة، الذى يحتفظ بصورة أصلية للإنسان قبل أن يعمِّر الكون، ويأخذ نصيبه من الأمل. هنا داخل هذه الشبكة من الممرات المضيئة، والفجوات السوداء التى تقف وراءها؛ اخترنا أن نرى الله، كي نطمئن قليلا، ونزيل تلك الوحشة، التى تعبر بخيالنا عند كل نظر مخطوف من أعماق الوجود وشعيراته السائبة.

 

                                         ***

من كثرة النظر للسماء في الصحراء ولتلك الشبكة من الممرات السماوية المضيئة؛ يمكن أن تنتقل هناك، بدون أن تسافر، تصبح واحدا من أبطال المخرج الإنجليزي "كريستوفر نولان "المقذوفين فى نسبية الزمن والحياة والحقيقة، والباحثين عن أصل متغير باستمرار بعد أن تفنى الأرض. داخل هذه الشبكة المضيئة، نعيش فى الزمان، وليس فى المكان. الزمان هو المكان الذى يمكن استعادته بالعودة، بالتجاوز، بالقفز فوق المتناقضات. بالعبور فى الصورة، ومواجهة العدم.

يغرينا النظر للسماء بأن ننفصل عن عالمنا وننسخ وجودنا في مكان آخر، نتجول وسط المجرات بعين مرتجفة، نشيخ بدون أن نموت. يكبر الحزن بدون أن يغمرنا. نشعر بالرهبة، ولكنها رهبة الاصطدام بحقيقة تلك الطبفة المضيئة والمزيفة والهشة التى صدقناها وملأت حياتنا نورا، وخيالاتنا سعادة.

 

                                             ***

هل يمكن أن نستمر في الحلم ونحن نعرف تماما أن هذه الطبقة المضيئة، والسبب فى الكثير من تأملاتنا وأفراحنا؛ هى صورة لم تعد موجودة بعد؟ وأن الفارق الزمنى هو الذى منحها هذا الوجود. ربما لو صعدنا في سلم الزمن الموسيقي الذى يتخلله الكثير من الأصابع الناقصة سنجد الحقيقة. ربما قِدم الكون، وعمرنا القصير بداخله؛ هو الذى خلق هذه المفارقة السعيدة وجعل كل الأحلام قابلة للتحقق، لأنها غير قابلة للوصول لمنبع جريانها، حيث يرقد القلب.

 

سيوة - أغسطس - 2017

 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على