بانون سقوط الطاووس

أكثر من ٦ سنوات فى الشبيبة

إليزابيث دروفي الكثير من الإدارات الأمريكية، إن لم يكن أغلبها، يظهر شخص يتمكن من إقناع الصحافة أن الرئيس لا يستطيع العمل بدونه (لا ينطبق هذا على أي شخصية نسائية حتى الآن). وتمثل عبارة «المساعد الذي لا غنى عنه» في واقع الأمر واحدا من أكثر المجازات اللغوية ابتذالا في الرئاسة الحديثة. فكان كارل روف بمثابة «الدماغ للرئيس بوش، وكان هاري هوبكنز يعمل على تماسك فريق البيت الأبيض الغزير الإنتاج في عهد فرانكلين ديلانو روزفلت، وظَهَر بِل مويرز على غلاف إحدى المجلات بوصفه «ملاك جونسون الطيب». ووفقا لهذه الرواية، فإن الإدارة الأمريكية كانت لتغرق حتما في الفوضى، أو تنزلق إلى الكارثة، في غياب مثل هذه الشخصية.في أغلب الأحيان، يجري اختراع أو تشجيع هذا المجاز من قِبَل الشخصية المعينة التي لا يمكن الاستغناء عنها. ويصدق الصحفيون هذه القصة عادة، بصرف النظر عن مدى صدقها أو ما إذا كانت تقوم على أساس جيد: فهي توضح كل شيء، وتعطيهم شيئا يكتبون عنه. وبالطبع، يشعر الشخص الذي لا غنى عنه بالسعادة في الكشف عن قصة درامية حول الكيفية التي حول بها الهزيمة إلى نصر، أو ابتكر فكرة بارعة، أو منع وقوع خطأ رهيب.ولكن عادة، تتجاوز الشخصية المصيرية المزعومة حدود دورها أو سلطانها. ففي البيت الأبيض في عهد ريجان، رأينا كيف تصور دون ريجان (الذي خلف جيمس بيكر رئيسا للأركان) نفسه رئيسا للوزراء: فأقحم نفسه في صور ريجان مع الزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف، وكان فظا مع المخلوقات الأقل شأنا (بما في ذلك المراسلين الصحفيين)، وارتكب الخطأ الفادح المتمثل في إغلاق الخط في وجه نانسي ريجان، التي كانت تكرس نفسها لراحة عزيزها «روني». وسرعان ما طُرِد دون ريجان.الرؤساء أنفسهم ليسوا مولعين بشكل خاص بقراءة الكيفية التي تمكن بها مساعد خارق الذكاء من إنقاذ سمعته. فكل الرؤساء يتمتعون بشعور صحي بالذات العليا فإذا كان الآخرون بهذا الذكاء، فلماذا لم يصبح أي منهم رئيسا؟ والرئيس المنتخب الحكيم يستطيع تمييز الطاووس إذا رأى واحدا، وهو يتجنب هذا النوع منذ البداية، أو يعرف كيف يُبقي ريشه تحت السيطرة. كان باراك أوباما راضيا للغاية عن نفسه، لأسباب وجيهة، ولكن كذلك كان حسه بكرامته عاليا حتى أنه لم يسمح بظهور مساعد خارق خلال رئاسته. ولم يتجرأ أي من مستشاريه على محاولة سرقة الأضواء منه.لم يكن ستيفن بانون شخصا حكيما بشكل خاص كمساعد في البيت الأبيض -فهو لم يتمكن من احتواء الطاووس داخله- وكانت «أنا» دونالد ترامب هشة بشكل كبير. وكان كل منهما غير كفؤ للقيام بدوره. فقد أمضى ترامب حياته في عالَم المال والأعمال محاطا بأفراد أسرته وأتباعه: ولم يكن هناك من المساهمين أو النواب لرئاسة شركاته من يتمتع بطموح خاص. وكان الرجلان عبارة عن سوء توافق صُنِع في جحيم البيت الأبيض.كان ترامب كمرشح ينصت لغرائزه، وكانت غرائزه في السباق الرئاسي في العام 2016 تشير عليه أن العمال الكادحين وغيرهم ممن يخشون على مستقبلهم الاقتصادي في احتياج إلى ضحايا يصبون عليهم جام غضبهم، سواء كانوا المهاجرين المكسيكيين أو المصرفيين من أصحاب البلايين. وكانت فكرة الجدار -سواء كانت تخيلية وهمية أو لم تكن- لتمنع «الأشرار» الذين كانت المكسيك «ترسلهم إلينا». وكما تصادف، كان بانون بين كل الأشخاص المحيطين بترامب هو الأكثر توافقا مع آرائه. وكان شخص مثل بانون -الذي يقدم كرجل متعلم مثقف ويؤكد على تألقه وذكائه- هو الشخص الذي يرغب المرء في تقريبه منه.ترامب نوع من الرجال لا يتورع عن استغلال كل ما قد يضمن له النجاح. وبمجرد انتخابه، وضع أصحاب البلايين على مقاعد الحكومة، ويبدو أن أحدا لم يراجعه حتى الآن في تصريحه لأنصاره أن أصحاب الثراء الفاحش مطلوبون لإدارة البلاد.من ناحية أخرى، لف بانون نفسه بما يمكن وصفه عموما بعباءة الفلسفة، التي تتألف من غضب عَدَمي نحو أي «مؤسسة». ولكن شعبويته كانت زائفة: ففي حين ناصر بانون سياسيا العمال الكادحين، كان يعيش على الملايين التي حصل عليها من عمله لدى جولدمان ساكس ومن خلال ثروة استثمرها في الكوميديا التلفزيونية «ساينفيلد».كما ازدهر بدعم من أسرة الملياردير ميرسر، التي جمعت ثروتها من خلال الموهبة التكنولوجية الفائقة التي تمتع بها رب الأسرة روبرت ميرسر وصندوق التحوط الذي تولى قيادته، وتمويل بريتبارت نيوز، وهو الموقع اليميني المتطرف الذي كان بانون يتولى تحريره سابقا والذي يروج للقومية المتطرفة وسيادة ذوي البشرة البيضاء، مع نفحة من معاداة السامية.كانت آراء بانون المتطرفة مكتسية ظاهريا برداء مجموعة خيالية من المبادئ المزينة بزخارف من مفكرين مدهشين. وفي التجارة والهجرة على سبيل المثال، اكتسب بانون فلسفة تتماشى مع انتهازية ترامب السياسية (أما ذات ترامب الأكثر ليبرالية الداعمة للديمقراطية فهي قصة أخرى).كان من الخطأ أن ننظر إلى بانون بوصفه بجماليون لجالاتيا ترامب، أو كما فعل بعض المراقبين، بوصفه راسبوتين في بيت ترامب الأبيض. فقد عمل بانون على تعزيز الميل القومي الذي دفع ترامب إلى المبالغة في تجاهل ابنته إيفانكا ومستشاريه الاقتصاديين بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ. كما تطفل بانون على السياسة الخارجية بوضع نفسه على رأس مجلس الأمن القومي لفترة من الوقت، إلى أن أزاحه اثنان من الجنرالات في إدارة ترامب وهما على وجه التحديد، مستشار الأمن القومي مكماستر وجون كيلي (رئيس الأركان الآن). (كان من المتصور أن بانون وراء الدفعة الأخيرة لإرغام مكماستر على الخروج، في الأساس من خلال الاقتراح بأنه «مناهض لإسرائيل»).بيد أن الدور الذي لعبه بانون بوصفه عبقريا بلا وزارة -والذي غمسه فيه ترامب، إلى أن وصل كيلي وأوضح تسلسل القيادة- كان فيه دماره. ففي غياب أي مسؤوليات محددة، تدخل بانون حيثما شاء وانتهت به الحال إلى تكوين عدد كبير من الأعداء. وكان لديه متسع من الوقت لخوض معارك داخلية من خلال تغذية المراسلين بقصص حول منافسيه في البيت الأبيض، رغم أنه كان على استعداد لتحويل أي شخص (على سبيل المثال، رئيس الأركان السابق رينس بريبوس) من خصم إلى صديق، كلما كان ذلك مناسبا.كان بانون مثيرا للمتاعب بقدر ما كان صانعا للسياسة ولم ينسجم الدوران. وبدأ ترامب أيضا يرى في بانون «مصدرا للتسرب». والواقع أن البيت الأبيض في عهد ترامب يتسم بالتسريب الشديد: فقد سمح كثيرون ممن يعملون هناك لأنفسهم بإبلاغ المراسلين أن مشاعرهم مختلطة إزاء العمل لدى ترامب، ولكنهم يعتقدون أنه من الشجاعة أن يصروا على البقاء وحماية البلاد من زعامته.الحق أن تبجح بانون قاده إلى الأرض الأكثر خطورة لمواجهة ترامب: هوس الرئيس بنصره الانتخابي. ذلك أن الغموض الذي اكتنف الفوز بتصويت الهيئة الانتخابية (وليس كما زعم كاذبا، بأكبر فارق منذ ريجان)، ولكن مع خسارة التصويت الشعبي بنحو ثلاثة ملايين صوت، يقض مضاجع ترامب. وهذا هو السبب الذي دفعه إلى اختراع الملايين من الأصوات «غير القانونية» وعرض خرائط تُظهِر الولايات التي فاز بها باللون الأحمر -والتي تغطي أغلب أراضي الولايات المتحدة- بل إنه اقترح على مراسل واحد على الأقل أن تنشر صحيفته الخريطة على صفحتها الأولى.كان اقتراح بانون بأنه لعب دورا أساسيا في النصر الانتخابي الذي حققه ترامب ساما للعلاقة بين الرجلين. ولهذا، كان من الواجب أن يبلغ سوء التوافق هذا في البيت الأبيض منتهاه.ولكن الآن بعد أن ذهب بانون، فسوف يطلق الرسائل من مجثمه القديم الجديد، الذي عاد إليه في نفس اليوم الذي أُعلِن فيه عن رحيله. وسوف يظل ترامب على حاله.مؤلفة كتاب «يوميات واشنطن:تقرير واترجيت وسقوط ريتشارد نيكسون»

شارك الخبر على