المكان.. ملهم الشعراء في الإمارات
حوالي ٣ سنوات فى الإتحاد
هزاع أبوالريش (أبوظبي)
ارتبطت ثقافة الشعر الإماراتي بتوثيق المكان كي تكون مرجعاً مُلهماً ومهماً ليستنبط الباحث والمؤرخ من التاريخ الشعري، ذلك الحضور المكاني المفعم بروح التاريخ، وبوح الذكريات التي تسكن في عمق القصيدة، وعبق المفردات التي تسطر بين معانيها تناغم الفكرة، وانسجام البيئة التي يعيشها الشاعر، ناقلاً المكان والزمان حتى تبقى خالدة على مر الأيام، ومهما تغيّر المكان، يظل باقياً في روح القصيدة، وبوحها.
علي الكندي
بداية يقول علي أحمد الكندي المرر، باحث في التاريخ والتراث المحلي: «اهتم العلماء بالشِّعر اهتماماً كبيراً منذ عصور قديمة وجعلوه مرجعاً وثيقاً ومصدراً مهماً لما فيه من توثيقٍ للأخبار وأحداث الليل والنهار، وما يجري في البلدان والأمصار». مضيفاً: يستدلون به على أقوالهم، ويحتجّون به على صحة آرائهم، فقد حفظ لنا الشِّعرُ جملةً من التاريخ القديم والأحداث الماضية وأحوالها، وعرّفنا على أسماء أعلام كثيرة من: ملوك وأمراء، وعلماء وأدباء، وشعراء وفرسان، وأسماء أمم وقبائل.وتابع المرر: وثّق لنا الشعر كذلك أسماء الأماكن والمناطق، والبلدان والقرى، والبقاع والجبال، والسهول والأودية، والتلال والمياه، والحصون والقلاع، والجزر ومغاصات اللؤلؤ، وغير ذلك من الأسماء الكثيرة التي لا تُعدّ ولا تُحصى. موضحاً: فقد ذكر الشعراء في شعرهم أسماء الكثير من المواضع والأمكنة منها ما هو معروفٌ لدى الناس، ومنها ما هو غير معروف، بعضها أسماء قديمة وأماكن كان يسكنها الناس في السنين الماضية، وأكثرها دَرَست منازلها، واندثرت معالمها، وانمّحت رسومها، ولولا الشعر لذهبت تلك الأسماء ونسيت ولم يعرفها أحد، والأمثلة على ذلك كثيرة.وأضاف المرر، قمت بتأليف كتابٍ مستقل بعنوان (معجم الأماكن في شعر أهل الظفرة)، ذكرت فيه جميع الأماكن التي ذكرها شعراء منطقة الظفرة ورتبتها على حروف المعجم، حاولت في الكتاب أولاً تحديد المكان جغرافياً ثم عرّفت به تاريخياً ووضعت في الكتاب الكثير من الصور لتلك الأمكنة. مختتماً: وكل ذلك حفظاً لتاريخ الأماكن في دولة الإمارات العربية المتحدة، وضرورية الشعر وأهميته لأن يكونا مرجعاً مهماً للتاريخ، والوطن.
فهد المعمري
خصوصية المكانيشير فهد علي المعمري، باحث في التراث الشعبي، إلى أن للمكان خصوصية عند شعراء الإمارات، فقد كان ولا يزال المكان حاضراً في أشعارهم، بيد أن هذا المكان اختلف من حيث كينونته، فهناك موارد الماء «الطوي» التي كانت تشكل عصب الحياة، وهناك طرق القوافل التي يسلكونها بين إمارات الدولة، وهناك المدن والمناطق والأحياء السكنية. مضيفاً: وقد تنوعت أساليب الشعراء في توثيق المكان، فهناك ذكر مكان المحبوب، وهناك ذكر الطريق من موقع المغادرة إلى موقع الوصول، ماراً بعشرات الأمكنة، واصفاً إياها وصفاً دقيقاً، وهناك أسلوب ثالث وهو تتبع مواقع سقوط الأمطار على عدد من الأماكن، فيذكر أسماء الأمكنة التي غيرتها الأمطار، وهناك أسلوب آخر في توثيق المكان وهو ذكر السدود والأودية، كما ذكروا أماكن السيوح والبطاح والجبال والمرتعات الرملية، لتأتي جميع هذه الأساليب وتصب في مصب واحد وهو توثيق المكان في الشعر.وبيّن المعمري: مما تجدر إليه الإشارة إلى أن الشعر لم يهتم بذكر المكان فقط لأنه هو مجرد مكان، بل تعامل معه كمادة أرشيفية يحتفظ بها كما كانت في زمانه ووقته، فكثيراً من الأمكنة التي فارقت اسمها القديم لتعيش مع اسمها الجديد مثل «الخرّان» الذي ذكرها الماجدي بن ظاهر باسم «الخرير». مؤكداً: ويبقى المكان ماثلاً بكل تفاصيله في الشعر، لا يغادره، وكأنما هو الدم الذي يجري في عروق القصيدة.
فاطمة المعمري
أرشيف وذاكرةتوضح الدكتورة فاطمة المعمري، كاتبة وباحثة في الأدب: يعتبر الشعر أحد أهم الفنون الرائجة والمنتشرة منذ القديم، ومن هذا الرواج تأتي أهمية القصيدة باعتبارها تمثيل لخلاصة التجارب الإنسانية، فهي الصوت المسموع للمجتمع، حيث لطالما كانت تشكل «ديوان العرب» لما جمعته بين كلماتها من تجارب وحكم، وعلوم، ومعارف، وثقافة، وتحاكي القصيدة الإماراتية بدورها ذلك، فهي «ديوان الإمارات» بما تحتويه من وصف الحياة الاجتماعية واستخدام كل ماهو في البيئة المحيطة لصنع صورة شعرية مؤثرة. مضيفة: يعد المكان أحد هذه المعطيات التي أثرت الساحة الإماراتية، وهي اليوم بمثابة ذاكرة لهذه الأماكن التي تأتي على ثلاثة أشكال، الأول هو ذكر المكان المحدد كبقعة صغيرة في أرجاء الدولة مثل اسم بحر أو شارع وغيره.. وعلى سبيل المثال، نجد ذكر شاطئ الراحة كمكان في قصائد كثيرة للمغفور له للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ومنها: ريت أنا في شاطئ الراحه.. من سرور وأنس ماريته.. من ورود تبنّي أرياحه.. والجمال مشيدٍ بيته. أما الشكل الثاني فهو ما نسمعه من ذكر للمناطق والمدن المنتشرة في الإمارات، ومنها ما قاله الشاعر ثاني بن عبود الفلاسي: خذني معك يا مسيّر.. جدوى عْرُبي وأصدقايا.. بوصل معاكم مْسَلِّمْ.. لو طوّل إبيِه مدايا، وأيضاً يقول الشاعر مبارك بن صالح بن يزرب العامري: يا ذا الحبيب الغالي.. لي ساكن في الهير.واستطردت المعمري: أما الذكر الثالث للمكان فهو ذكر الإمارة، وفي قصيدة نغم الوطن يقول مطلع القصيدة «قلبي خذاه لي ساكن دبي.. غرٍ جميل ومرهف أسلوب». مختتمة: هكذا فإن المتتبع للشعر الإماراتي يمكنه حصر وجمع أسماء العديد من الأماكن والمناطق والمدن، وكلما عدنا لذاكرة الشعر الأولى لوجدنا أسماء أكثر قد نكون لا نعرفها اليوم، وهذا ما يميز الشعر حيث إنه يوثق ذاكرة المكان كأرشيف أدبي، ومرجع للباحثين والمعنيين في ذلك.