ما وراء العنف الديني والطائفي المستمر حالة بعض قرى ومدن المنيا

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

ما الذي يحدث في قرى ومراكز محافظة المنيا من توترات وعنف ديني ذى محمول طائفي على نحو بات متكررًا منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي، منذ نشأة وتمدد الجماعة الإسلامية، وفرض أفكارها وأيديولوجيتها الدينية الوضعية بوصفها هي الإسلام وصحيحه من وجهة نظرهم، ثم تمدد الحركة السلفية في القرى، وتأثيرها على نمط التدين السائد في المحافظة، وتوظيف فوائض الغلو والتزمت القيمي والسلوكي والمحافظة الاجتماعية، وتوجيهه إزاء الآخر الديني، وتحويله إلى فزاعة تهديد للإيمان والإسلام، على الرغم من أن الحضور المسيحي التاريخي هو جزء من التعدد الديني والمذهبي التاريخي في بلادنا، ومكون رئيس في أنماط التدين الشعبي السائدة.

أشكال متعددة من الحواجز النفسية والعقائدية والإدراكية يتم غرسها وسط الأطفال والشباب وكبار السن -أيًا كان انتماءاتهم الاجتماعية والتعليمية- للسيطرة الرمزية على جموع المسلمين كأتباع لبعض رجال الحركة السلفية، أو الجماعة الإسلامية، وتوظيفهم في الحشد والتعبئة ضد أخوتهم الأقباط، في القرية أو المدينة المريفة على نحو يجعل من التوتر الطائفي والعنف الديني أحد سمات الحياة اليومية في هذه القرى.

لماذا التركيز على كراهية الآخر الديني والمذهبي في محافظة المنيا وبعض مدنها وقراها؟ إن استهداف كراهية المختلف دينيًا ومذهبيًا من الأخوة في الوطن الواحد هو أقرب إلى سياسة دينية سلفية -ومن الجماعة الإسلامية- ترمي إلى تحقيق عديد الأهداف يمكن رصد بعضها فيما يلي:
1- تحويل الآخر الديني والمذهبي إلى عدو، وشيطنته ترمي إلى إشاعة الخوف والخطر لدى المواطنين المسلمين إزاء الأقباط، وهو ما يؤدي إلى اتساع الفرقة والخلاف والتمايز فيما بين بعضهم بعضًا، ومن ثم يسهل على رجال الدين السيطرة عليهم وتوجيههم وتعبئتهم وراء خطابهم وقياديهم الدينية، ومن ثم اتساع دوائر نفوذهم، ومكانتهم الاجتماعية داخل القرى والنجوع والمراكز والمحافظة.
2- التعبئة من وراء إشاعة الخوف من الآخر الديني، تؤدي إلى حل النزاعات اليومية بين المواطنين من مختلفي الديانة، على أساس قانون قوة الأكثرية في مواجهة الأقلية الدينية، ومن ثم استبعاد قانون الدولة من التطبيق على المخالفين لقواعده وأحكامه. من هنا يلجأ الغلاة من الطائفيين إلى تطبيق قواعد القانون العرفي الذي تطبقه المجالس العرفية والذي يميل إلى فرض عقوبات وتهجير للأقباط من منازلهم وقراهم، في عديد الأحيان. في بعض الواقعات النزاعية حول ري الأراضي أو الخلاف على حدود الملكية الزراعية، أو المشاجرات العادية حول الجوار، أو البيع والشراء، تفرض تعويضات. بعض الوقائع الجنائية التي يرتكبها بعض المواطنين المسلمين، يتم التعويض فيها صلحًا، حتى لا يقدم الجناة إلى جهات التحقيق والمحاكمات الجنائية!

هذا النمط من مجالس الصلح العرفي، تشكل كيانات ضد سلطة الدولة، وفي مواجهة جهات التحقيق والقضاء أي سلطة موازية للسلطات المختصة دستوريًا وقانونيًا. دائمًا الهدف من وراء ذلك هو محاولة احتواء التوترات الدينية والنزاعات الطائفية من التمدد والتفاقم. 

لا شك أن هذا الهدف الذي تحول إلى سياسة لدى بعض المحافظين، ورجال الإدارة والضبط، ساهم في تفاقم واستمرارية هذا النمط النزاعات الطائفية، لأنه يرمي إلى حلول آنية وليس محاولة مواجهة النزاعات الطائفية بالحسم من خلال قانون الدولة. بعض هؤلاء يلجأ إلى القواعد والمجالس العرفية، حتى لا ينسب إليه العجز أو الفشل في حل المشكلات، ومن ثم يتم استبعاده من موقعه أو تغييره على نحو يؤثر سلبًا على مستقبله المهني أو الوظيفي.

بعض النزاعات الطائفية المستمرة منشئها مشكلات ترتبط بأماكن العبادة المسيحية، التي تعرضت دائمًا للهجوم عليها بالحرق أو الهدم من بعض الغلاة، وتحريض بعض رجال الدين المتزمتين للعوام بالهجوم على أماكن العبادة، وترويج بعضهم لأساطير حول ما يدور داخلها، من طقوس العبادة المسيحية، ووصفها بالكفر لمجرد مغايرتها للديانة والعقيدة الإسلامية، وهو أمر طبيعي أن تكون لكل ديانة ومذهب طقوسه الخاصة، وعقائده، لكن بعضهم يحاول تصويرها على أنها تعبيرات كفرية على الرغم من اعتراف الديانة الإسلامية بالمسيحية واليهودية، وارتكاز القيم الإسلامية العليا والفضلى على التسامح والمساواة والمحبة والسلام والصداقة والأخوة. من الملاحظ أن بعض رجال الدين المتشددين ودعاة التحريض على العنف ضد الأقباط، لم يطالعوا الكتابات الفقهية الرصينة حول الحرية الدينية في الإسلام، من كبار الفقهاء من أمثال الشيوخ عبد المتعال الصعيدي، ومحمود شلتوت الإمام الأكبر وسواهم من كبار الأئمة، التي تعضد الاتجاهات المعاصرة في الحرية الدينية ومبدأ المواطنة في الدولة الحديثة بما فيها حرية التحول المذهبي والديني، لكن بعض هؤلاء سواء أطلعوا أم لا، لا يأبهون كثيرًا بصورة الإسلام الفضلى، بل يركزون على بناء مكانتهم ونفوذهم وسيطرتهم الرمزية والدينية على العوام، على أشلاء قيم التسامح والأخوة الوطنية والمواطنة، لأن بعضهم لا يعترف بشرعية قانون الدولة الوضعي، ويريد العودة إلى نظام الشريعة والأعراف، كي يستولوا على سلطة التشريع والقضاء، أو فرض آرائهم التأويلية البشرية على النصوص المقدسة والسّنوية. إن ما يجري في المنيا وبعض قراها ومدنها هو صراع سياسي ذو وجه ديني بامتياز، صراع على السلطة بين سلطة المشايخ وبعض العائلات وسلطة الدولة الشرعية، بين سلطة الأعراف وبين سلطة القانون.

إن محاولة بعضهم منع المواطنين الأقباط من الصلاة في بعض المنازل أو المباني، بدعوى عدم وجود ترخيص، هو تجاوز لمبادئ الحرية الدينية والحقوق المترتبة عليها قانونًا. الحرية الدينية هي أحد الحقوق الدستورية في التشريع الخاص ببناء دور العبادة، والحق في ممارسة الشعائر الدينية في حرية ودون حواجز أو قيود تؤدي إلى العصف بأصل الحق ذاته. وتحتاج من الجهات الإدارية المنوط بها تطبيق القانون أن تغلب هذا الحق، ولا تفرض قيودًا عليه تحت تأثير ضغوط رجال الدين وكبار العائلات والأهالي، لأن من حق المواطن القبطي أن يمارس شعائره الدينية في حرية دون قسر أو إرغام أو قيود تعوق ممارسته لشعائر ديانته ومذهبه.

إن ما يحدث في المنيا يحتاج إلى وقفة من الدولة حاسمة، وتطبق القانون على جميع المخاطبين بأحكامه، وضد المحرضين والمشاركين في أعمال التحريض على العنف الديني والطائفي، أو الحض على كراهية الآخر الديني، لأن صورة الدولة المصرية والإسلام والمسلمين تتأثر سلبيًا في المجتمع الدولي، وفي تقارير الجهات الدينية على المستوى العالمي، بكل تأثيرات ذلك على المساعدات والمعونات والقروض الدولية، بل وعلى مكانة بلادنا.

كفى تساهلًا مع المحرضين على كراهية الآخر الديني والمذهبي، وعلى العنف ذو الوجوه الدينية والطائفية ... كفى!

شارك الخبر على