خاص في الذكرى الثانية والسبعين لعيد الجيش معركة الجرود ستعيد للجيش وجهه ومجده

أكثر من ٦ سنوات فى تيار

بقلم جورج عبيد -
 
الذكرى الثانية والسبعون لعيد الجيش تدفع اللبنانيين إلى مجموعة تأملات في لحظات حاسمة تجسّد جزء منها والجزء الآخر سيكتبه الجيش بقوته وتماسكه وشهادته من أجل لبنان كلّ لبنان. ماذا يرجو اللبنانيون من هذا الجيش عينًا؟ ثمّة جدليّة تتحكم في رؤية كثيرين إلى دور الجيش وحضوره وتفاعله مع واقع سياسيّ متناقض حتى حدود التمزّق، فيرون فيه واحة أمل ورجاء ومدى لنور ينهمر من بسالة ضباطه وعناصره وعيونهم المشرقة فيرتطم بأرض عطشى للحرية والسلام،  حتى إذا ما تدفقت الينابيع اخضوضرت وأزهرت.
 
في السابق كثيرون خشوا من التداخل بين الجيش والسياسة، وأصدروا أحكامًا عزلت الجيش من إمكانية التفاعل. قدر لبنان أنّه بلد مركّب بالمعنى الطوائفيّ، وقدر النظام السياسيّ أنه تكوّن من هذا المركّب عينًا فأمسى مولودًا على صورته ومثاله، متمسكًا بالعيش المشترك، مستمدًّا شرعيته من هذا المبدأ الجوهريّ. وحين تمّزق لبنان بحروب عبثيّة وقاتلة، منذ سنة 1975 وكانت المقدّمة لذلك سنة 1973 وقد أدّت إلى استقالة قائد الجيش آنذاك العماد إسكندر بعيد القصف الجويّ على الثورة الفلسطينيّة، اتجه الجيش إلى التلاشي، كصورة عن نظام مركب أضحى ممزّقًا ومرمّدًا، وكانت القمة في سنة 1988 و1989، وصولاً حتى سنة 1990 لحظة بداية دولة الطائف في الشكل وليس في الجوهر، فهي دولة ولدت من تسوية همّشت مقومات الوجود اللبنانيّ المتكامل الأجزاء والأطراف.
 
مرّ على الجيش قادة كبار من فؤاد شهاب إلى إسكندر غانم إلى إبراهيم طنوس وصولاً إلى ميشال عون وإميل لحود والآن جوزيف عون. لكنّ محطّة العماد ميشال عون وإميل لحود، الأكثر تأثيرًا على الجيش وفيها تمت بلورة عقيدته القتالية، وأسبغت عليه البعد الوطنيّ الحقيقيّ المتجلّي من عمق تلك العقيدة. ذلك أن العماد عون خلال قيادته للجيش أبرز بأن دوره حماية الوطن بشرعيته وشعبه وسيادته لتي لا حياد عنها ولا حدود لها، وهي سيادة الأرض والذات البشريّة بتبلورها الوطنيّ، والعماد لحود أعاد توحيد الجيش بعد تشرذمه اليسير، وقام بتأسيسه على النفحات اللبنانية غير الطائفية حين قرّر تجميع الألوية فأخرجها من السياق الطائفيّ والمذهبيّ، وأدخلها في سياق مختلف كليًّا، سياق ينتمي إلى الوطن كلّه، محدّدًا العدوّ ومميّزًا بينه وبين الصديق، من دون أيّ انتقاص لمبدأ السيادة الوطنيّة المتأسّسة على النمط الميثاقيّ كعهد أكثر مما هو كعقد.
 
 
إنطلاقًا من ذلك، واجه الجيش إلى جانب حزب الله إسرائيل، وفي اللحظات الذروة المنبثقة من نظام الفوضى الخلاّقة، وهو نظام عبثيّ قاتل، أمسك الجيش بالأرض والأمن، وكانت قمتها لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري حين بدأ لبنان يتجه نحو مزيد من الخلل. خلالها تصرّف الجيش تصرّف الحكماء، ولم يدع الأمور تفلت من قبضته، وخلال حرب تموز سنة 2006 ساهم جدًّا بمواجهة الإسرائيليين إلى جانب أيضًا المقاومة في الجنوب. ثمّ كان له أن يواجه الإرهابيين في مخيم نهر البارد ولم يأبه اللواء الشهيد فرنسوا الحاج رحمه الله إلى أمر صدر عن قائده ميشال سليمان بالتراجع، دخل المعركة إلى جانب اللواء شامل روكز برأس مرتفع وشامخ، وخرج مع الجيش منها منتصرًا وإن كلفت شهداء كثرًا رووا بدماشهم الزكية أرض لبنان، لقد كان نصر الجيش اللبناني على هؤلاء نصرًا للبنانيين على مختلف فئاتهم ونحللهم ومللهم، ومن الدماء المهراقة المدرارة على الأرض أشرق وجه لبنان من جديد... وفي عبرا ومع احتدام الوضع وقف شامل روكز كالوتد ولم يأبه لصوت حاول ثنيه، فخاض المعركة بقوة وانتصر، وسقط جورج بو صعب شهيدًا مع رفاق له، ومحمد الأسير بات في السجن ينتظر أن ينال عقابًا شديدًا على إجرامه وإرهابه. 
 
أمّا في عرسال فتعرّض الجيش لمؤامرة دنيئة للغاية حين تم سحل الرائد جورج بشعلاني وخالد زهرمان في هذه البلدة. وبعد ذلك قرّر الجيش خوض المعركة بوجه الإرهابيين في عرسال وجرودها حتى تعرّض لمثلبة خبيثة كانت نتيجتها خطف العسكريين. هؤلاء لا يزالون جرحًا بليغًا في قلوب اللبنانيين وليس فقط في قلوب ذويهم. علا سؤال آنذاك لماذا سمع قائد الجيش من لجنة العلماء المسلمين، ولم يتجه نحو الحسم السريع، حتى جاء خطف شباننا تعبيرًا واضحًا على عمق المؤامرة؟ لم يسمع أحد الجواب في حينه، وحده الصدى هو الجواب. ذلك العهد صار الصدى وتآكله الصدأ وبلغ لبنان نحو مرحلة الاستحقاق الرئاسيّ، وبعد مخاض عسير أمسى العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية ضمن انقلاب واضح للموازين في الجوار السوريّ وتماهى مع الداخل اللبنانيّ، ليعيد للجيش من جديد هويته الوطنيّة والتي لم تتمزّق على الرغم من الظروف السائدة آنذاك وعقيدته القتالية في معنى القتال من أجل لبنان.
 
في هذا الزمن الحاليّ، ينظر كثيرون إلى رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون وقائد الجيش العماد جوزيف عون كضامنين لقوة الجيش ووحدته ومنعته ضمن العقيدة القتاليّة-السياديّة التي أرساها فيما سبق رئيس الجمهوريّة في صفوفه. وتعتبر مصادر مراقبة بأنّ قائد الجيش العماد جوزيف عون، يملك القدرة على إعادة الاعتبار للجيش وهو يدفع نحو أن يعلو وجهه أكثر فأكثر ضمن المسلمات الوطنيّة. الشيء الجوهريّ هنا بأن القائد الحاليّ يحاول توطيد العلاقات مع كلّ الدول ضمن مفهوم تلاقحيّ للخبرات القتالية فتتناضح عباراتها وتتلاقى حيث يجب أن تتلاقى، ليقود كلّ ذلك إلى عملية تطويريّة ومن ثمّ إلى دعمه بأسلحة متطورة يستطيع من خلالها أن ينحت شبكة امان للبلد وللناس ويحمي الحدود من الجنوب إلى الشمال مرورًا بسلسلة جبال لبنان الشرقيّة.
 
وبهذا المعنى ينتظر بأنّ التجربة القتالية الفعليّة ستكون في جرود رأس بعلبك والقاع والفاكهة واضحة في المعنى والأسلوب مظفرة في الهدف وساطعة في الرؤية. ستحمل هذه التجربة طاقة كبرى على احتمال المشقات فوق هاتيك الجرود ضمن مفهوم قتالي متطور وحديث غير قابل للعطب يقوم على محاصرة المسلحين بالقصف البريّ والجويّ فيشل حركتهم وقدرتهم على التسلل ونقل لمعركة من مكان لآخر. في هذه المعركة سيستلهم الجيش نضال شهدائه الذين سقطوا بوجه هؤلاء المجرمين، سيحشد هذه النضالات في قالب واحد وينتقم من مرحلة أدّت إلى هذه اللحظة الشنيعة. فمن المسلمات البديهيّة معرفة مصير العسكريين المخطوفين، وهذا هاجس يتملك القيادة والعسكريين والأهل، وبعد ذلك يكون لكلّ حادث حديث.
 
هذه المعركة ستعيد للجيش وجهه ومجده. ستظهر أن الجيش ليس سياج الوطن، بل هو قلبه النابض. ما من إنسان في الدنيا بلا إسم، وما من وطن بلا جيش، وما من مواطن بلا وطن، ولا وطن من دون سيادة ولا سيادة من دون مقاومة، ولا مقاومة من دون هوية وانتماء يحددهما القلب والعقل، ويبلورهما الفهم والإرادة، وتجسدهما القدرة والمعرفة. لقد ربي اللبنانيون على تلك المفاهيم، وغالبيتهم العظمى متعلقة بها وتعتبرها أساسًا لوحدة هذا البلد وبقائه وديمومته. في عيد الجيش تكبر مساحة الضوء وتضيق مساحة الظلمات، ونحن مشددون إلى النتائج المنتظرة أي إلى النصر المبين. سيكون لنا نور جديد، وسنعطى وطنًا حقيقيًّا، فأرواح شهداء الجيش لن ترتاح إلاّ بهذا الوطن الواحد، وبدولة عادلة راقية وبمؤسسات خالية من فساد، وبمواطن له حقوقه وواجباته وبإنماء يطال الجميع بعيدًا عن الحسابات الشخصيّة.
 
في هذا العهد ينتظر أن تقود المعركة التي سيخوضها الجيش إلى معركة قيمية وأخلاقية وسياسية عنوانها تحرير الوطن من وحوش الفساد والجشع والفاقة كما سيحرّر الجيش جرودنا من الوحش الداعشي المفترس ويقتله كما قتل جاورجيوس اللابس الظفر برمحه التنين، فهذه بدورها دمل قاتلة ومزمنة. في عيد الجيش له من كل لبنانيّ باقة حبّ ووفاء، ولنا منه الكرامة والسيادة وولادة وطن جديد مشمول بالانتماء والمحبة.
 
 
 

شارك الخبر على