بالفيديو “٧ دنانير”... حولت حياة المئات لجحيم في التسعينات

حوالي سنتان فى البلاد

محمد الشيخ: من ”الطعمية الشهية“ إلى ورم يمشي على قدمين

سيد شرف حميدان: نقل لي دم في التسعينات بعد حادث، فأصبت بالفيروس

طبيب متقاعد: حتى اليوم وللأبد، لا يمكن ضمان سلامة الدم %100 

استشارية أمراض الكبد: العلاج ناجح بنسبة 100%

 

أصيب 358 مريضًا في البحرين بفيروس التهاب الكبد الوبائي C في الفترة من العام 2016 إلى 2018، وفق آخر إحصاء نشرته وزارة الصحة في العام 2019.
هل كان نقل الدم في الفترة الزمنية التي سبقت العام 1990 هو السبيل لتفشي الفيروس بين البحرينيين؟
يعتقد أكثر من 80 شخصًا مصابًا بالتهاب الكبد الوبائي C أن مصدر إصابتهم بالفيروس هو نقل دم ملوث إما في البحرين أو خارجها قبل أكثر من عشرين عامًا.
بينما يفند أطباء هذا الرأي باعتبار أن الفيروس يجد سبلًا كثيرة للانتقال، وفي الوقت ذاته لا ينفون تبرع بعض مدمني المخدرات بالدم في فترات ماضية مثل مرحلة الثمانينات للحصول على أموال تسد احتياجهم من المواد المخدرة.
 

من ”الطعمية الشهية“ 

لم يكن يعرف أن الدم الذي ينبغي أن ينقذ حياته سيكون نقمته الآتية، وليالٍ طويلة كمَّمَ فيها فمه بيده خوفًا من أن تسمعه زوجته أو أطفاله وهو يصرخ من فرط الألم. 
يروي الرئيس السابق لجمعية أصدقاء مرضى الكبد محمد الشيخ أنه تناول وجبة شهية من الطعمية في مصر، فتكسر دمه، وأجري له نقل دم تسرب خلاله فيروس شرس، يقال له القاتل الصامت أو فيروس التهاب الكبد الوبائي C.
نام الفيروس بدفء بين خلايا دمه لعشرين عامًا، ساكنًا يمتص ألوان بشرته وحياته، حتى أخبره الأطباء ”أنت مصاب بفيروس التهاب الكبد الوبائي C، والورم السرطاني قد تفشى في الكبد المعتكف على تصدير أورامه لكل أعضاء الجسد”. 

“أنت ورم يمشي على قدمين. انتظر فقط”، فسأل طبيبه “أنتظر ماذا؟” وكانت الإجابة: “الموت”.
لكن محمد رفض الموت قائلًا “لا أهابه، لكنني لا أتمناه“، ومن هنا بدأت الرحلة.
تتقاطع رواية محمد الشيخ مع الكثير من الروايات التي يسردها مرضى التهاب الكبد الوبائي C في البحرين.
وحسب استبانة مررتها لـ 16 مريضًا، وجدت أن 13 شخصًا منهم ممن يفوق عمرهم 44 عامًا يعتقدون أن مصدر الإصابة هو نقل دم سابق في البحرين أو دول أخرى مثل الهند ومصر، وأن أكثر من نصف العدد خضع لاحقًا لعملية زراعة الكبد بعد الإصابة بمضاعفات، منها تليف الكبد والأورام السرطانية. وتتصدر تركيا مشهد اللجوء لزراعة الكبد، وتليها الهند كوجهتين رئيستين لجأ إليهما البحرينيون لإجراء العملية، إما على حسابهم الخاص أو على حساب الدولة، إذ تزيد تكلفة العملية عن 70 ألف دينار في الخارج.

نصف رئة وبذرة كبد 
جلس أمامي محمد الشيخ بأقل من نصف رئة، وكبد صغيرة زرعت للتو، ينتظر نموها لتغطي فراغ كبده المستأصلة، وقليل من الأنابيب المتخفية في جسده هنا وهناك. 
يروي قصة مرضه “بعد 20 عامًا من نقل الدم لي في مصر، عادت الانتكاسات الصحية، واشتد صفار وجهي وعيني، حتى فقدت قدرتي على الرؤية، وبعد إجراء التحاليل في مستشفى السلمانية أخبرني الأطباء بأنني أعاني من التهاب الكبد الوبائي C، ولاحقًا بأنني أشكو من ورم كبير في الكبد يستحيل النجاة منه”.

استمر الشيخ في مراودة غرف العمليات في البحرين وخارجها بعد انتشار الأورام في جسده، وفي كل مرة كان الأطباء يحددون له تاريخًا للموت، لكنه لم يستسلم وأجرى 3 عمليات في الرئة وعمليتين في الكبد، ولم يفقد إيمانه بقاعدته الذهبية ”أربعة تطيل العمر: الحالة النفسية، الأكل الصحي، الالتصاق الروحي بالمعتقد والتواصل الاجتماعي“.
وأردف الشيخ “كنت أكتشف أورامي السرطانية بسبب الحكة الشديدة التي تنتهي بنزيف، ظننته مرضًا جلديًا في البداية لكنني عرفت لاحقًا بأنها الأورام والقنوات الصفراوية”.
20 عامًا من الإهمال... من المُلام؟
تنص رواية أكثر المرضى الذين عانوا من مضاعفات التهاب الكبد الوبائي أن الفيروس سكن أجسادهم لأكثر من عشرين عامًا دون علاج، ويعلق محمد الشيخ على ذلك “لا يمكن لوم الطبيب وحده حتى وإن افترضنا وجود أوجه قصور من المستشفى، المريض أيضًا ملام في إهمال حالته الصحية، كثير من المرضى كانوا على علم بإصابتهم بالفيروس لكنهم لم يعرضوا أنفسهم للمتابعة الطبية طوال هذه السنوات”.

من جانبه، رأى سيدشرف حميدان المصاب بفيروس التهاب الكبد الوبائي C أن وزارة الصحة بشكل أو بآخر تتحمل جزءًا من المسؤولية في نقل دم ملوث له، ويتمنى أن تنصفه بتعويض مالي عن كلفة العلاج، مستدركا “بلدنا معطاء، والأدوية توفر لنا بالمجان رغم أن الكثير من الدول الأخرى تمتنع عن ذلك“.

لكن فاطمة محمد تؤمن أن مجمع السلمانية الطبي يتحمل مسؤولية انتقال الفيروس إليها وتضيف “أعاني من نزيف في المريء بين فترة وأخرى بعد عملية زراعة الكبد التي أجريتها في تركيا على نفقة الدولة مشكورة، لكن بالطبع يتحمل المستشفى المسؤولية؛ لأنهم نقلوا لي دمًا ملوثًا بعد إجراء عملية جراحية في العام 1989، ولو أخبروني لتبرع لي أحد من أهلي“.
المصدر الأول لكيس الدم
يؤكد ماجد الماجد، طبيب عام متقاعد من بنك الدم بمجمع السلمانية الطبي، أنه كان يعمل على فحص الدم والتأكد من سلامته لستة وعشرين عامًا منذ العام 1984، ويتحدث عن مصادر أكياس الدم قائلا “البحرين هي الدولة الوحيدة في الخليج التي طالما اعتمدت على المواطنين للتبرع بالدم بشكل أساس، وربما كانت الفترة الوحيدة التي اعتمد فيها على الأجانب هي إبان الحماية البريطانية”.
 

تجارة المخدرات والدم في الثمانينات
تعليقًا على ما تداوله بعض المرضى بأن البحرين كانت تشتري أكياس الدم من دول أجنبية، يؤكد الماجد “لا أعتقد بأنها معلومة صحيحة، عملت منذ 26 عامًا في السلمانية ولم أرَ أو أسمع بذلك”.
أما عن متعاطي المخدرات وتبرعهم بالدم لقاء مبالغ مالية فقال “ربما حدث ذلك قبل فترة التسعينات؛ لأن وزارة الصحة كانت تمنح مبلغًا من المال يعادل 7 دنانير لكل متبرع، وهذا قد يجذب مدمني المخدرات للحصول على مال لشراء المواد المخدرة، وشهدت شخصيًّا حادثة من هذا النوع”.

ويستدرك “بعد فترة التسعينات تم إيقاف منح المال مقابل التبرع بالدم، وزادت ثقافة التبرع بالدم في البحرين، وأصبحت أكياس الدم خاضعة للتحليل والتدقيق الشديد، إذ يخضع كيس الدم حاليًا لـ 3 تحاليل أساسية: (فيروس التهاب الكبد، الزهري والإيدز). ثم نرسل العينات للصحة العامة للفحص، ولا نستخدم كيس الدم حتى نحصل على نتيجة الفحص”.
ويستطرد الماجد أن البحرين ليست مقرًا للتجارة بأكياس الدم لأن مجمع السلمانية الطبي هو الوحيد المخول باستلام عينات التبرع بالدم، وأن ثقافة التبرع عالية إذ نظمت حملات التبرع بالدم منذ أكثر من 22 عامًا في البحرين.
 

 

نوعان لالتهابات الكبد

وقالت استشارية الجهاز الهضمي والكبد مهيبة عبدالله إن التهاب الكبد الوبائي ينقسم لنوعين: الالتهاب الحاد مثل “A, C” الذي ينتقل بالأكل واللمس، والالتهاب المزمن “B, C” الذي ينتقل عن طريق الدم واستخدام الأدوات الحادة أوالجنس.
وتكمن خطورة التهاب الكبد المزمن في أنه قد يتطور ويسبب تليف الكبد، ما يفقد الكبد وظائفه الحيوية، وقد يؤدي لنزيف في الجهاز الهضمي، تجمع السوائل في البطن والجسم، الغيبوبة الكبدية، تأثر وظائف الكلى حتى تصل لأورام وسرطان الكبد.
وتنصح مهيبة المرضى بالمتابعة الدورية والمستمرة مع الطبيب؛ لأن المصاب بتليف الكبد قد يتطور المرض لديه ويحتاج لعلاج جذري للتليف وهو زراعة الكبد.
 

نقل الدم ليس السبب الأوحد 
هل نقل الدم الملوث هو السبب الرئيس لالتهاب الكبد الوبائي C؟
سألت الطبيبة عبدالله فأجابت ”وجدت هذه المشكلة في البحرين في الفترة الزمنية التي سبقت العام 1990؛ لأن فيروس التهاب الكبد الوبائي لم يكن معروفًا لدى الأطباء ولم يكن هنالك معرفة بإمكانية انتقاله عن طريق الدم“.
وأضافت ”هنالك طرق أخرى لانتقال الفيروس مثل الجنس واستخدام شفرات الحلاقة المشتركة، ومن الممكن أن تنقل الأم الحامل لجنينها الفيروس أيضًا“.
كما أكدت مهيبة أن السنوات الخمس الأخيرة شهدت صناعة أدوية ممتازة تعالج التهاب الكبد الوبائي في 3 أشهر فقط، وتصل نسبة الشفاء إلى 100 %.
 

دواء لأكثر من 170 مصابًا 

أسس الشيخ جمعية أصدقاء مرضى الكبد بالتعاون مع جمعية ”السكلر“ البحرينية وتشاركوا المقر، وساهمت الجمعية في تطوير العلاج المقدم لمرضى التهاب الكبد الوبائي بالشراكة مع وزارة الصحة التي افتتحت 3 عيادات لأمراض الكبد: الزراعة للأطفال وعيادة للبالغين لزراعة الكبد وعيادة لالتهاب الكبد الفيروسي.
ومدت الجمعية يد العون لتوافر الدواء لأكثر من 170 شخصًا مصابًا بالمرض، حين كانت كلفة الدواء تصل لـ 40 ألف دينار، حتى توافر الدواء لاحقًا في عيادة السلمانية مجانًا.
 

رأيت الموت وشعرت بكبدي تتقطع
“كنت أشعر بمشرط حاد يقطع كبدي وغبت عن الوعي من شدة الألم، شحب وجهي وضعف جسدي، انتفخ بطني وساقي، رأيت الموت رؤيا العين، وكنت أشعر بملك الموت”. 
هكذا وصف سيدشرف حميدان رحلته مع فيروس التهاب الكبد الوبائي الذي تحول لتليف في الكبد. ويروي قصة إصابته بالفيروس قائلًا ”في العام 1986 كنت في السادسة عشرة من عمري، وتعرضت لحادث سيارة نقل لي على إثره دم في مستشفى السلمانية، ولكنني لم أعرف بإصابتي إلا بعد 22 عامًا، حين وصل تليف الكبد لمرحلة متقدمة لا يمكن النجاة منه إلا بزراعة الكبد“.
 

كلفني العلاج 70 ألف دينار

وأضاف حميدان ”عائلتي مشكورة أقامت لجنة أهلية لعلاجي، ثم ابتعثتني وزارة الصحة لإجراء زراعة الكبد في المملكة العربية السعودية، لكنني لم أتمكن من العثور على متبرع يتوافق مع كبدي. فسافرت على وجه السرعة لدولة أخرى وأجريت العملية على حسابي الشخصي بكلفة تفوق 70 ألف دينار، آملًا أن تعوضني وزارة الصحة لاحقًا بالمبلغ المالي كما عوضت الآخرين، لكنني لم أحصل على هذا التعويض وما زلت أتمنى أن تنصفني الوزارة وتعوضني ولو بجزء يسير من التكلفة“.
 

 سلامة الدم 

وأكد ماجد الماجد أن جودة الدم تحسنت واعتمدت البحرين معايير عالمية للتأكد من سلامة الدماء المتبرعة، لكن الخطر ما زال قائمًا في الآن ذاته لأسباب عدة، منها: عدم صراحة المتبرع، في حال تعرضه لممارسات غير شرعية مثل العلاقات الجنسية والمخدرات، والسبب الآخر هو تبرع شخص ما بالدم وهو مصاب بفيروس التهاب الكبد في بدايته والذي لا يظهر في تحليل الدم إلا بعد 6 أسابيع على الأقل من الإصابة. 
وأضاف ”رغم كل التدبيرات الاحتياطية والتحليلات الدقيقة للدم، حتى الآن وللأبد لا وجود لفحوصات موثوقة بنسبة 100 % تثبت سلامة الدم من كل الفيروسات في كل العالم، لذا الخطر ما زال قائمًا“.
 

ماذا بعد؟
على الرغم من أزمة الثقة التي تطفو على السطح في حديث المصابين بهذا الفيروس، إلا أنه ليس احتمالًا واردًا مطلقًا أن الأطباء من الكوادر البحرينية المخلصة في مجمع السلمانية الطبي قد أدركوا أن نقل الدم قبل أكثر من 20 عامًا قد يحمل بين جنباته هذه الخطورة على حياة المرضى.
الأهم من كل ذلك بعد هذه الأعوام الطوال، هو كيفية معالجة هذه المشكلة الصحية ونشر التوعية قدر المستطاع لإيقاف انتشار هذا الفيروس.. القاتل الصامت.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على