جاد الرحباني يضرب بمقطوعة معقدة التأليف, سهلة السماع والهضم لجعل محبة لبنان فوق كل إعتبار

ما يقرب من سنتين فى تيار

الإبداع هو إبن الصعوبة وليس السهولة في شتى الميادين,وهو دائماً يأتي عبر إصطدام واقع معيّن بواقع آخر. ففي ميدان الموسيقى والتأليف الموسيقي, يرتكز الإبداع على إبتكار الجمل الموسيقية وصياغتها ضمن قالب موسيقي- لأي نوع أو نمط موسيقي عبر العالم- يعكس شخصية ومعرفة المؤلف الموسيقي ضمن أسلوبه الخاص, وهذا ما يعطي المؤلف الموسيقي هويته وأسلوبه الذي يُعرَف بهما في عالم الموسيقى والتأليف.ألتأليف الموسيقي ينعكس من خلال المضمون الذي تحتويه المقطوعة الموسيقية لأي نوع أونمط موسيقي إنتمت, وليس من خلال النغمة كأساس وهذا يعني أن اللحن قد يكون في قمة السخافة وقريب من أذن المستمع حيث يحفظه بسهولة كما هي الحال في الموسيقى الشعبية غالباً. وقد يكون اللحن في قمة التعقيد ونغمته ثقيلة على أذن المستمعين وهذا ينطبق على أنواع الموسيقى التي تتطلب ثقافة واسعة وعميقة مثل الموسيقى الكلاسيكية, الجاز, البلوز وغيرهم. أما قمة الصعوبة في التأليف الموسيقي فهي كيفية جمع المفهومين, أي خلق مقطوعة موسيقية معقدة التأليف وفي نفس الوقت تحتوي على جمل موسيقية قريبة من أذن المستمع تجعله يرغبها مهما كان مستواه الثقافي الموسيقي. جاد الرحباني يأتي في مقطوعة مشاعر لبنانية أو  “ Lebanese Emotions” في إبداع لم يسبق له مثيل حيث قدّم مقطوعة في غاية الصعوبة من بوابة التأليف الموسيقي وسهلة السماع والهضم في آن واحد لأن المؤلف يعتاد دائماً على العمل العالي الجودة من ناحية, ومن ناحية أخرى يحترم هدف المقطوعة الموسيقية وهوجعل اللبنانيين في كافة أقطار العالم يحبون لبنان ويتمسكون به مهما كانت الظروف قاسية. هوتربى في كنف أبيه الياس الرحباني في معرفة ودراية خلق الألحان القريبة من الأذن والقلب, ولكنه إنتهج لنفسه مدرسة مستقلّة خاصة.
 
كما نعلم أولاً أن الميلوديا هي من صنع وصياغة ألأخوين رحباني الذين غيّرا من خلالها مدة الأغنية والمقطوعة الموسيقية من جهة, ومن جهة أخرى الـتأليف الموسيقى بحيث الجمل الموسيقية أصبحت قصيرة ضمن الماذورات الموسيقية هادفين التخلي عن الجمل الموسيقية الركيكة والغير مجدية والتي تجعل الحبكة الموسيقية ضعيفة. ثانياً أن مفهوم الأوكسترا والتوزيع الأوركسترالي دخلا أيضاً مع الأخوين رحباني إلى الميلوديا. ثالثاً أن التميمية اللبنانية أو  Theme أللبناني الذي أتى نتيجة التراكمات في التراث الفلكلوري في الدرجة الأولى, وفي الدرجة الثانية نتيجة الثقافة, العلوم, الأبحاث, وفي الدرجة الثالثة رغبة المؤلف الموسيقي اللبناني في خلق موسيقى تشبه طبيعة شعبه, مياهه وجباله. وهذا ما كرّسه الأخوان رحباني في خلق هذه التيمية اللبنانية- أي عندما يسمع أي مستمع موسيقى يعرف أنها موسيقى لبنانية- أي الموسيقى اللبنانية. وقد نقل الأخوان رحباني التيمية اللبنانية إلى داخل الموسيقى الغربية ومقاماتها المعروفة بالماجور والمينور, حيث مزجا الجو اللبناني وإيقاعاته ضمن لحن غربي بنفحة لبنانية وتوزيع أوركسترالي. ونجد مثال على ذلك في جميع الأعمال الموسيقية والمسرحية للأخوين رحباني. جاد الرحباني يضرب في خلق Theme مثلث الأبعاد ما بين اللبناني,الفانك( (Funk music والشعبي الفرنسي ضمن الموسيقى النيوكلاسية .(New Classical Music) فقد إبتكر Theme لبناني- فانك, حيث قام بإيجاد نوتات مشتركة من خلال التأليف ما بين اللونين إحداهما لبناني شرقي وآخر أميركي- أفريقي مستعملاً مقامات الماجور والمينور ضمن الموسيقى النيوكلاسيكية داخل الميلوديا. والجديربالذكر بأن موسيقى الفانك الراقصة قد وجدت بذورها في أواسط الستينات من موسيقى السول, الجاز والبلوز وتعتمد على الريتم بواسطة غيتار الباص, وتعتمد أيضاً على ألات النفخ النحاسية, الغيتار الكهربائي, الدرامز والبيانو, وقد لمع فيها جيمس بروان,تشاكا خان، ومارفا وايتني، ولين كولينز، وبرايدز أوف فرانكشتاين، وفيكي أندرسون، وآنا كينغ (مغنية الجاي بي) وبارليت. إلى جانب النوتات الموسيقية في التأليف,رأى المؤلف الموسيقي إمكانية إستعمال الآلات الموسيقية للفانك في التوزيع داخل الموسيقى النيوكلاسيكية ضمن الميلوديا. الميزة الأولى للعقدة التأليفية الموسيقية هي Theme فانك-لبناني والشعبي الفرنسي, أما الميزة الثانية بأن هذه المقطوعة تشكل ميلوديات ضمن الميلوديا حيث كل آلة تلعب ميلوديا خاصة بها في التوزيع الموسيقي إلى جانب النغمة الأساسية التي تنتقل من آلة إلى أخرى بين الجمل الموسيقية. فقد إعتمد المؤلف على مفهوم الcounterpoint الذي ينص على عزف الآلات الموسيقية لألحان مختلفة في نفس الوقت, والجدير بالذكر بأن هذا المفهوم قد أوجده المؤلف الألماني جوهان سيباستيان باخ. ولكن الملفت بأن هذا المفهوم لايُستعمل بشكل كبير أو كامل الوقت ضمن المقطوعات الموسيقية وذلك للحفاظ على الهارموني وإنسجام النغمات حيث يعتمد الموزعين على الأكورات أكثر في التوزيع الأوركسترالي. 
 
تبدأ المقطوعة على مقام المينور (Mineur) بجو نيوكلاسيكي مع آلة البيانو  التي تلعب ميلودي أساسية بمرافقة الوتريات التي تلعب ميلودي مختلفة في التوزيع, إلى جانب الغيتار الباص الذي يلعب ميلودي مختلفة على ريتم الفانك بالإضافة إلى دخول الجو اللبناني مع آلة الناي عند القفلة الأولى. ثم تبدأ الوتريات من جديد بالجو النيوكلاسيكي عبر نوتات عديدة بنغمات تصاعدية ضمن الModulation بينما نلاحظ الباص يرافق الوتريات بميلوديا مختلفة بنغمات عديدة تنازلية ضمن ال .Gammeبعدها تقفل الوتريات الجو النيوكلاسيكي بنوتات ممهدةً للجو اللبناني عند القفلة الثانية, ثم يبدأ الجو اللبناني مع آلة البيانو بميلودي جديدة بمرافقة أكور سباعي(سبع نوتات) على البيانو في التوزيع -وهذا الأكور يُستعمل في الموسيقى الكلاسيكية,الجاز والفانك- مع الدرامز الذي يلعب إيقاع الفانك بالإضافة إلى الطبلة والرق اللذان يلعبان إيقاع المقسوم. تُعاد نفس النوتات من جديد بإستبدال البيانو في الميلودي الأساسية بآلة القانون لغاية القفلة الثالثة. آلة الناي تدخل بميلوديا مشتركة مع الوتريات لفترة وجيزة, ثم تلعب الوتريات بعدها ميلوديا مختلفة, كما نلاحظ دخول آلة القانون مع الناي في تكرار نفس النوتات من جديد لغاية القفلة الرابعة. يتغير هنا المقام من المينور إلى الماجور ((Majeur مع دخول الجو الفرنسي عبر آلة البندينيون في ميلودي مختلفة مع الوتريات لغاية القفلة الخامسة.
 
يعود مجدداً الجو النيوكلاسيكي مع البيانو والوتريات اللذان يلعبان ميلوديات مختلفة بينما الناي بطريقة متوازية يلعب ميلوديا مختلفة محافظاً على الجو اللبناني لغاية القفلة السادسة.ينتهي الماجور ويبدأ المينور من جديد ويعود الجو اللبناني مع القانون على إيقاع المقسوم لفترة وجيزة, ثم يدخل إيقاع الفانك من جديد مع المقسوم مع تسجيل دخول آلة الناي مع القانون في نفس الميلوديا بينما الوتريات تلعب ميلوديا أخرى. الجو اللبناني يستمر ولكن هناك نقلة في الإيقاع من المقسوم إلى إيقاع واحدة كبيرة الطربي, من ثم يعود الإيقاع مجدداً إلى الفانك والمقسوم من جديد إلى الجو اللبناني. يعود الماجور من جديد مع الجو الشعبي الفرنسي ويستمرمع عودة الجو النيوكلاسيكي بعدها لغاية القفلة السادسة من جديد. يختتم المؤلف المقطوعة بالجو اللبناني مع إيقاع المقسوم ثم مع إدخال إيقاع الفانك لغاية القفلة الأخيرة. المُلاحظ أن الغيتار الباص ينفرد بيملودي مختلفة على موسيقى الفانك منذ بداية المقطوعة إلى نهايتها بينما الآلات النحاسية تنفرد بميلودي وأكورات نيوكلاسيكية.
 
ألمؤلف جاد الرحباني يقدم نموذجاً فريداً في التأليف الموسيقي بشكل عام وفي الميلوديا بشكل خاص, إذ إنه قدّم عملاً في غاية التعقيد من كل الجوانب. يأتي دائماً بإبداعات جديدة عبر الشكل والأساليب الموسيقية في التأليف الموسيقي داخل الميلوديا. فبعد إبداعه في أغنية "معقولي شي نهار" الذي ألفها بمناسبة إنفجار مرفأ بيروت, يعود بمقطوعة مشاعر لبنانية ليثبت نفسه أكثر وأكثر في عالم الإبداع ويتخذ لنفسه مكاناً بين عباقرة التأليف الموسيقي.  
 
بقلم الباحث والناقد تشارلي سميا

شارك الخبر على