العداء للدستور

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

المؤسسة الشعبية الوحيدة التي جاءت نتيجة للدستور تجاهر بعدم احترامه، فبعض أعضاء مجلس النواب لا يكفون عن التهكم على الدستور والمطالبة بتعديله، أحيانا بدافع من التعالي، وغالبا كنوع من النفاق للسلطة. هؤلاء الأعضاء فاز معظمهم بأغلبية ضئيلة لا تؤهلهم لتمثيل الشعب، واختارت الأجهزة الأمنية البعض الآخر وفرضتهم علينا، هؤلاء جميعا يعز عليهم احترام القانون. 
إنهم قفزوا من فوقه، ولا يعرفون قيمة اللحظة التاريخية التي ولدت منها هذه الوثيقة- الدستور، قلة منهم هم الذين يفهمون الممارسة السياسية على وجه صحيح، والقليل الأقل هم الذين تتسع مداركهم ليفهموا أن التزامهم يجب أن يكون للشعب وليس للسلطة التي يحاولون إرضاءها.

الدعوة تبدو بريئة بقدر ما فيها من خبث، لا أحد من الداعين لتغيير الدستور يتحدث عن هدفه الحقيقي، فالكشف عن هذا السبب هو الذي سيسقط الأقنعة من على وجوههم، قناع الرياء وتملق السلطة، حتى رئيس مجلس النواب، الذي يلزمه منصبه أن يكون أكثر صدقا وشفافية، نجده يلف ويدور بطريقة لا تليق بمنصبه، يدعي أن الظروف التي كتب فيها الدستور كانت طارئة، وكأن هذا لا يحدث في كل الدول، فالظروف الطارئة هي التي تستدعي كتابة الدستور، لأنه أحد عوامل الاستقرار، وهو حجر الزاوية في بناء أي دوله، لكن رئيس المجلس يبالغ في التمويه على هدفه الحقيقي فيتحدث معترضا على مواد الدستور التي لا تعطي المجلس الحق في محاسبة الوزراء، وهو اعتراض فارغ، ربما لأنه لم يقرأ الدستور، وربما لأنه لم يفهمه، فالعديد من النصوص تلح على هذه الرقابة، لكنه مثلهم جميعا لا يسعى إلا وراء مد فترة منصب الرئاسة وفتحها على مصراعيها للمزيد من السنوات. 
المسرحية القديمة تعيد نفسها، وإذا نزعنا قناع السيد رئيس مجلس النواب سنجد خلفه وجه المطربة فايدة كامل بطلة مسرحية السبعينيات القديمة، والتي كانت سببا في أبدية السلطة.

لا يوجد شيء أسوأ من النظام السياسي المصري في أبدية السلطة، وربما نحن الشعب الوحيد في العالم الذي يظل فيه الرئيس على العرش، سواء تم انتخابه أم لا، الأقدار والعناية السماوية فقط هي التي تنقذنا من الرؤساء السابقين، محمد نجيب تم تحديد إقامته في منزله حتى مات منسيا، وتم محو اسمه من كل كتب التاريخ، وارتفع عبد الناصر إلى سدة الحكم دون انتخابات حقيقية، في كل مرة كان يتم اختياره في استفتاء شكلي، وظل حاكما مطلقا، رغم هزيمة يونيو المخزية، وكان من المكن أن يظل كذلك لولا مرض السكري الذي أودى بحياته، وبنفس الطريقة صعد السادات دون أي شرعية، إلا شرعية الأمر الواقع ونظام وراثة الحكم التي ننفرد بها دون كل الأنظمة الجمهورية، ورغم ذلك كان السادات مولعا باسترضاء الغرب، وقرر أن يكون حاكما ديمقراطيا بعض الشيء، لذا منع التعذيب داخل السجون لفترة معينة، وقرر أن يضع دستورا دائما، فاختار لجنة من القانونيين المقربين منه، ولكن الدستور أفلت منهم وفيه خطأ لا يغتفر، فقد تم تحديد مدة رئاسة الجمهورية بمدتين فقط، كل واحدة منهما 6 سنوات، وكأن 12 عاما في الحكم المطلق ليست مدة كافية، لا أحد يدري كيف حدث هذا الخطأ، فقد أعيدت كتابة المواد مرة ثانية كلها تحت إشراف مباشر من مستشاري الرئاسة، وتم إضافة مواد توسع من سلطات الرئيس وتنقص من الحريات العامة قبل ليلة الاستفتاء، ومر كل شيء بالتواطؤ المعهود، لكن عقدة المدتين لم تنكشف إلا فيما بعد، واستلزم الأمر تجهيز مسرحية جديدة تكون بطلتها المطربة فايدة كامل التي كانت بالمصادفة زوجة وزير الداخلية ومن أشد الناس قربا لزوجة الرئيس جيهان السادات وواحدة من أقدم العضوات في مجلس الشعب، لتكون قائدة حملة فتح مدة الرئاسة، وأفزعت كل أعضاء المجلس بصوتها الجهوري فأسرعوا جميعا بالموافقة، وأصبحت الرئاسة مفتوحة أمام السادات، ولكنه لم يهنأ بها، فبعد عامين فقط تم اغتياله، أي أنها لم تكن بالفأل الحسن عليه، وعلى الذين يطالبون الآن بتعديل الدستور أن يضعوا هذا في اعتبارهم.

مبارك هو الذي استفاد من هذا التعديل، هو الذي كرس لنظام أبدية الحكم، كانت سنوات حكمه من أطولها وأثقلها على مصر، لم يتفوق عليه إلا الخليفة المستنصر بالله الفاطمي الذي حدثت في عهده أكبر مجاعة في التاريخ وأطلق عليها "الشدة المستنصرية"، ووصل الأمر فيها إلى أن المصريين كانوا يأكلون بعضهم وبعض، وقد أرغم مبارك على ترك مصر فيما يشبه حالة من "الشدة المباركية"، ونحن نستجدي المعونات ونثقل كاهلنا بالديون، ونبيع مصانعنا، ونرهن إرادتنا، استطاع مبارك أن يوقف عجلة التاريخ، وأن يحول مصر من الاستقرار إلى الجمود، ومن الجمود إلى الموت البطيء حتى أصبحنا حفرية من حفريات التاريخ، لم ينقذنا من حكمه الأبدي إلا قيام الثورة، ولم نكسب من الثورة إلا هذا الدستور اليتيم الذي يريد الذئاب من النواب الانقضاض عليه، حتى الآن لم نكسب إلا حق انتخاب الرئيس لعدة سنوات محددة، والأمل الواهي في تداول السلطة، وهو أمر يحدث في كل العالم دون صراع أو مزايدة، دون مبالغة في تملق السلطة الحاكمة، لقد اكتوينا بالفعل من نيران الحكم الأبدي وثرنا عليه، فما الجدوى من إعادته من جديد؟!

أثق بأن الذي يشغل منصب الرئاسة هو شخص وطني جيد، تقدم لإنقاذ الوطن في ظل ظروف صعبة، وتسلم دولة منهكة تخثر الدم في عروقها لمدة ثلاثين عاما، وتسلل داخل مفاصلها الخونة والمفسدون، وتحكم أصحاب المصالح في اقتصادها، كما أنها مكبلة بديون باهظة، كل هذا يتطلب عملا لا يهدأ، وهو يبذل أقصى طاقته بحكم خبرته العسكرية، ولا يمكن لإنسان أن يتحمل هذا الضغط لسنوات طويلة مهما كان إغراء السلطة، فما جدوى إعطائه المزيد من السنوات، ثماني سنوات من الحكم كافية جدا حتى لا ينهك جسديا وعقليا، الذين يقدرون جسامة المسئولية يدركون ذلك، الرئيس بنفسه صرح بذلك في أكثر من مناسبة.. الولايات المتحدة تسير على هذا النظام دون أن تغرق في وهدة التخلف. 
فرنسا التي كانت مدة الرئاسة فيها 12 عاما خفضتها إلى ثماني سنوات، حتى لا تصبح مدة طويلة ومملة، وبعد ثماني سنوات من الحكم سوف تنشأ مشكلات جديدة، تتطلب حلولا جديدة وعقولا جديدة ورجالا جددا. 
التغير ضروري، لأن العالم لا يكف عن التغير، ولا يمكن أن نسمح لبعض عجائز مجلس النواب أن يعيدوا لعب مسرحية السبعينيات الفاشلة، عليهم أن يصمتوا ويتوقفوا قليلا عن منافقة السلطة، وأن يرفعوا أيديهم عن الدستور، لأنه لا أحد يمكن أن يصادر على المستقبل.

شارك الخبر على