لأنه ليس في القوم «عمر»!

حوالي ٧ سنوات فى التحرير

ازدان بريدي الإلكتروني بتعليقات شتى حول ما كتبته هنا بعنوان (يا ابن الخطاب أعزيك) وكثف أصحابها آراءهم ورؤاهم حول العبارة التي ختمت بها مقالي: «لكننا يا ابن الخطاب.. لا نزال عاجزين عن أن نحولك إلى (مؤسـسة اجتماعية) لتكون أنت  فينا ألف ألف عمر!».
أستخلص ثلة من مشاهد متنوعة وشواهد ثرية من صيرورة وسيرة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عبر التعليقات التي تكشف مدى الشوق العنيف إلى المنظومة العمرية العدلية التي يجري استدعاؤها في كل زمان ومكان، لأن صاحبها الفاروق: إنساني الرؤية.. استشرافي الرؤيا.. عالمي النزعة.. كوني السلوك.
وأنتقي هذه الورقة -والشكر لصاحبها- لما تلقي به من ظلال حوارية ذات دلالات حيوية، وتشكيلات فكرية تخترق الزمان والمكان والإنسان.. وستظل.
إذ إن القاسم المشترك في المشاهد العمرية والشواهد العدلية عبارة «هكذا تُصنع القوانين» أي حسب غايات المجتمع وطموحاته وثقافاته، وذلك بالغوص في قاع المجتمع المستهدف بتلك القوانين.. فالمجتمع هو مصدر القوانين وليس السلطة «بما لا يخالف كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- طبعا» والمفارقة أنه لم يتغير الناس ولا الحياة، ولكن ليس في القوم (عمر) رضي الله عنه!

مشهد 1:
رغم شدة الفاروق وقوة بأسه فإنه كان يعد موائد الطعام للناس فى المدينة، وذات يوم رأى رجلا يأكل بشماله فجاءه من خلفه، وقال:
يا عبد الله كل بيمينك..
فأجابه الرجل: يا عبد الله إنها مشغولة.
فكرر عمر القول مرتين فأجابه الرجل بنفس الإجابة!
فقال له عمر: وما شغلها؟
فأجابه الرجل: أصيبت «يوم مؤتة» فعجزت عن الحركة!
فجلس إليه عمر وبكى وهو يسأله: من يوضئك؟ ومن يغسل لك ثيابك؟ ومن يغسل لك رأسك؟ 
ومع كل سؤال ينهمر دمعه.. ثم أمر له بخادم وراحلة وطعام وهو يرجوه العفو عنه، لأنه آلمه بملاحظته على أمر لم يكن يعرف أنه لا حيلة له فيه!   
هكذا تُصنع القوانين.

مشهد 2:
ذات يوم خرج عمر من المسجد بعد صلاة العصر فرأى رجلا يأكل لحما، وفي اليوم التالي رآه يأكل حلوى، وفي اليوم الثالث وجده يأكل نوعا آخر، فقال له عمر: «أكلما اشتهيت اشتريت»!

مشهد 3:
كان يخرج ليلا في شوارع المدينة وأزقة الحواري، لا ليتلصص على رعيته ولكن ليتفقد حالها! وذات مساء إذ بأعرابية تناجي زوجها الغائب وتنشد في ذكراه شعرا:
«تطاول هذا الليل واسود جانبـه .. وأرقـنـي أن لا خلـيـل ألاعـبــهُ
فــوالله لــولا الله لا رب غـيـرهُ .. لحرك من هذا السرير جوانبهُ
ولكن تقوى الله عن ذا تصدني .. وحفظًا لبعلي أن تنـال مراكبـهُ»
فيقترب أمير المؤمنين ثم يسألها من خلف الدار: ما بك يا أختاه؟
فترد الأعرابية:
لقد ذهب زوجي إلى ساحات القتال منذ أشهر وإني أشتاق إليه.
فيرجع أمير المؤمنين إلى دار ابنته حفصة، رضي الله عنها ويسألها: كم تطيق المرأة فراق زوجها؟
وتستحيى الابنة وتخفض رأسها فيخاطبها متوسلا: إن الله لا يستحيي من الحق ولولا أنه شيء أريد أن أنظر به في أمر الرعية ما سألتك! فتجيب الابنة: أربعة أشهر. 
ويعود الفاروق إلى داره ويكتب لأمراء الأجناد (لا تحبسوا الجيوش فوق أربعة أشهر).
ويصبح الأمر قانونا يحفظ للمرأة أهم حقوقها، تابع مسار القانون لم يصغه الجهاز التنفيذي للدولة، بل صاغه المجتمع (الأعرابية وحفصة) واعتمده الجهاز التنفيذي للدولة لينظم به المجتمع.. هكذا تَشكَّل (قانون المرأة).

مشهد 4: 
يواصل الفاروق ذاته، رضي الله عنه، تجواله المسائي متفقدا -وليس متلصصا- وإذ بطفل يصدر أنينا حزينا فيقترب من الدار ويسأل عما به؟
فترد أم الطفل: إني أفطمه يا أمير المؤمنين.
حدث طبيعي أُم تفطم طفلها، ولذا يصرخ ولكن أمير المؤمنين لا يمضى إلى حال سبيله؛ بل يحاور أُم الطفل ويكتشف أن الأم فطمت طفلها قبل موعد الفطام لحاجتها لمئة درهم كان يصرفها بيت مال المسلمين لكل طفل بعد الفطام، يرجع الفاروق إلى منزله لا لينام، إذ أنين ذاك الطفل لم يبارح عقله وقلبه فيصدر أمرا (بصرف المئة درهم للطفل منذ الولادة وليس بعد الفطام) ويصبح الأمر قانونا يحفظ حقوق الأطفال ويحميهم من مخاطر الفطام المبكر.
لو لم يحاور الفاروق تلك المرأة ما أصدر قانونا يحمي حق الطفل في الرضاعة الكاملة.. وهكذا تَشكَّل (قانون الطفل).

مشهد 5:
كان الفاروق يحب أخاه زيدا، وكان زيد هذا قد قُتل في حروب الردة.. ذات نهار بسوق المدينة يلتقي الفاروق وجها بوجه بقاتل زيد، وكان قد أسلم وصار فردا في رعيته، يخاطبه الفاروق غاضبا: (والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح)!
فيسأله الأعرابي متوجسا: وهل سينقص ذاك من حقوقي يا أمير المؤمنين!
فيطمئنه أمير المؤمنين: لا.
فيغادره الأعرابي بمنتهى اللا مبالاة قائلا:
إنما تأسى على الحب النساء (!!) إذ ليس بيني وبينك غير (الحقوق والواجبات)!
لم يغضب أمير المؤمنين ولم يزج به في السجن، بل كظم غضبه على جرأة الأعرابي وسخريته وواصل التجوال.. لم يفعل ذلك إلا إيمانا بحق هذا الأعرابي في التعبير وبكظم الغضب وهو في قمة السلطة وبفضل شجاعة هذا الأعرابي.
تَشكَّل في المجتمع (قانون حرية التعبير).

مشهد 6:
امرأة من عامة الناس ترفض قانون المهر الذي صاغه الفاروق عمر! لم يكابر أمير المؤمنين ولم يزج بالمرأة في السجون ولم يأمر بجلدها، بل اعترف بالخطأ بالنص الصريح (أخطأ عمر وأصابت امرأة) ثم سحب قانونه وترك للمجتمع أمر تحديد المهور حسب الاستطاعة. 
وهناك عشرات المشاهد والشواهد.. وكلها تثير علامة استفهام.. هل يكون في القوم عمر؟! ومتى؟!
،،،،،،،،،،،،،،،،،
@ واتس آب: 
هل قرأتم نزغة وزير الدفاع الصهيوني «موشيه يعالون» وهو يقول: 
«ليس من المتعة أو السياسة أن تقتل عدوك بيدك، فعندما يقتل عدوك نفسه بيده أو بيد أخيه، فإن المتعة أكبر، وهذه سياستنا الجديدة، أن نشكل ميليشيات للعدو فيكون القاتل والمقتول من الأعداء»!
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
@ تويتر:
سقطت الدولة الأموية فسأل أبو جعفر المنصوري يوما أحد حكمائها: 
ما الذي أسقطكم؟
فقال حكيمها باكيا:
«أمور صغار سلمناها لكبار، وأمور كبار سلمناها لصغار، فضعنا بين إفراط وتفريط».
بل وزاد عليها متحسرا: 
«قرَّبنا العدو طمعا في كسب وده، وبعَّدنا الصديق ضامنين ولاءه، فنالنا غدر الأول وخسرنا انتماء الثاني».
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
@ فيسبوك: 
«الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني، ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد، تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية يقاوم بعضها بعضا، فتتهاتر قوة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ!». (عبد الرحمن الكواكبي.. طبائع الاستبداد). 
alafifi56@gmail.com

شارك الخبر على