«سماوات لا تنبت أشجاراً».. سرد يفيض بالإيحاء

أكثر من سنتين فى الرأى

عندما حضرتْ مجموعة «سماوات لا تنبتُ أشجاراً» للكاتب السعودي حسن علي البطران بين يديّ، استرعى انتباهي عنوانها، وشدني ما حملته في طياتها من فضاءات رحبة تجاوز الواقع إلى عالم الميتافيزيقيا.

لقد عمد الكاتب إلى رسم نصوص قصصية بالغة في القصر، في قالبٍ نثري، وبأسلوب سردي، واستطاع فيه تقديم الأحداث -على قصرها- ضمن حسّ درامي رفيع؛ اختزل فيها عناصر هي حجر الأساس في القصة: بداية، أحداث، نهاية.

ومَن يمعن النظر في هذه النصوص يلحظ توغلاً في عالم منفصل، مغاير لذلك الذي نعيش؛ عالم نرتقي فيه إلى مستوى يستوجب قراءة واعية.

من جهة أخرى، كشفت هذه المجموعة الصادرة عن دار محراب العرب للنشر والتوزيع (2020)، النقاب عن تقنيات عدة بُنيت عليها أحداث نصوصها القصصية وأهم هذه التقنيات: التناص كما في قوله: (وآوت يوسف، عذراء، نحو البعيد) متداخلاً مع استدعاء التراث بأشكاله وجزئياته؛ من أقوال وأحداث وشخصيات. وأضيف إلى هذا وذاك توظيف الأساليب البلاغية والبديعية في مواضع كثيرة من المجموعة، ويشار إلى أن الكاتب استطاع أن ينفلت من الأسلوب الاعتيادي في السرد إلى أسلوب يفيض بالإيحاءات، ويزخر بالتلميح في التعبير عن المعاني وعما يختلج نفسه عوضاً عن الإفصاح المباشر، فضلاً عن المضامين التي تتوارى خلف النصوص ولا يمكن استنباطها إلا بقراءة عميقة متأنية من المتلقي.

ويُلحظ غلبة التناقضات في كثير من النصوص القصصية من مثل: (شمعة لا تضئ، طيور ينقصها الريش، سماء بدون غيوم). وهذا يعكس هاجساً إبداعياً لدى الكاتب؛ سطره بجمالية عالية في قالبٍ انصهرت فيه مجموعة من التقنيات موشحة بالجانب النفسي الذي يمكن رصده في كل قصة، وأدى إلى التقاء الكاتب مع القارئ في مواطن مشتركة.

ومن يتمكن من التوغل في أعماق النصوص وسبر أغوارها، سيجد الكاتب قد حلّق في أماكن متعددة؛ تعددت معها أساليب التعبير، ومجريات الأحداث، وهذا -بدوره- يجسد خفة الكاتب في التحرك من حدث لآخر، إذ يعد عاملاً من عوامل التنامي والتطور السريع، يجعل القارئ في شوق غير طويل لبلوغ النهاية ورسم المشهد وتخيله، وبالتالي تشكيل الصورة الكلية للنص الماثل.

ومن باب رصد الحالة النفسية وترجمتها في نصوص المجموعة، أشرك الكاتب القارئ -ضمن عملية تفاعلية- بالأحداث، وهذا لا بد أن يعقبه مشاركة في التأويل، فالجانب النفسي عنصر يلتقي فيه الكاتب والقارئ.

ومع الحضور القويّ لمقومات الرمزية، والخيال، والإيحاء بجانب عمق المعاني والبلاغة، نلمس وحدة معنوية لا تتجلى إلا بعد الغوص في أعماق النصوص؛ فالأساليب المتبعة في توظيف تقنيات السرد متنوعة، إلا أن هناك وحدة في المضمون، ولا عجب، فالكاتب واحد، والحالة الوجدانية نفسها في كثير من النصوص، وإن تعددت أساليب السرد.

ما شدّني في هذه المجموعة ما تمثّله من تجلٍّ في الرؤية وفي التجارب النفسية العميقة التي تلامس روح الإنسان.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على