تشكيل شخصية البطل في «الأحقافي الأخير» لمحمد الشحري

أكثر من سنتين فى الرأى

يحمل عنوان رواية محمد الشحري «الأحقافي الأخير» (دار سؤال، بيروت، 2020) دلالات مهمة تتعلق بالمكان والبطولة، إذ برز معطى المكان من خلال صيغة النسب التي صيغ على أساسها الموصوف، أما صفة الأخير فتحمل دلالات البطولة، فالصفات التي يتمتع بها الأحقافي تنتمي إلى زمن آخر سابق على الزمن الذي يعيش فيه.

وقد برزت سمات البطولة لدى علي بن سعيد الأحقافي منذ بداية الحكاية التي قامت عليها الرواية، فقد خرج من البلاد لكسب الرزق وسداد ديون عائلته، فانتظم في جيش الساحل المتحد، حيث بدت ملامح البطولة في سلوكه منذ ذلك الحين، إذ رفع السلاح في مواجهة الضابط الإنجليزي الذي استخف بالجنود العرب في الكتيبة التي يقودها الأحقافي، فأراد أن يطردهم من المكان المخصص لهم ليقيم مع ضيوفه فيه، فأيقن الأحقافي معنى تصرف الضابط الإنجليزي. وقد حوكم الأحقافي بعد ذلك بعقوبة لم تشف غليل الضابط الإنجليزي الذي أصر على الانتقام منه ولو بعد حين.

حين شعر الأحقافي بتراجع الأعمال الثورية في بلده الأحقاف قرر العودة إلى هناك، فطلق زوجته بطلب منها إذ رفض البقاء مع عائلته التي شعر أن الوطن بحاجة أكبر منها إليه، وحين وصل إلى الأحقاف استطاع أن يشكل مجموعة تحافظ على القيم الثورية الأصيلة في سياق ثوري مفتّت ومنقسم.

أبرزت الرواية ملامح الانقسام والعمى الذي أصاب ثوار الأحقاف، مما أدى إلى إضعاف الثورة ليس من الناحية العسكرية فحسب، بل من الناحية القيمية أيضاً، إذ لم يعد هدف الثورة تحقيق العدالة، بل صارت أهدافها محصورة بمصالح قادتها الذين أقاموا هوة سحيقة مع حاضنتهم الشعبية حين بدؤوا بحملة إعدامات تطال أشخاصا عاديين لا مصلحة لهم في السياسة.

ركزت الرواية على شخصية البطل الأحقافي الذي تمسك بقيم الثورة ومبادئها التي سعت إلى العدالة والمشاركة السياسية، غير أن الرواية لم تعتمد في بناء شخصية البطل على صفاته الذاتية النابعة من تجربته الشخصية فحسب، فهي لم تتناول سيرة الشخصية إلا في مواقف معينة، بل اعتمدت على تلك الصفات التي استمدها الأحقافي من مجتمعه الذي ينتمي إليه، ومن هنا تناولت الرواية العديد من عادات الأحقافيين، كما هو الحال في تناول مفهوم الخلطاء؛ وهم الناس الذين يخالطهم الأحقافي من غير أبناء قبيلته، إذ ينبغي معاملتهم باحترام وتفان، وكما هو الحال في تعامل أهل المرأة الأحقافية المطلقة معها، فقد أولم الأحقافي لأخته مرتين بعد طلاقها في إشارة إلى التزام أهلها باحترامهم لها واحترام خياراتها واختياراتها.

وقد بدت طبيعة الأحقافيين من خلال تعاملهم فيما بينهم بعد اغترابهم عن بلادهم، إذ تجاوزوا النزاعات القبلية فيما بينهم بعد اغترابهم عن بلادهم، إذ تجاوزوا النزاعات القبلية بينهم، كما ظهرت ملامح التسامح والمحبة من خلال الراوي المشارك نشوان الحمرمي الطيار الإيراني الذي قصف الأحقاف وقتل عائلة كاملة لم يتبق منها إلا طفلة. وعلى الرغم من تعرف الأحقافيين على شخصيته ساعدوه، وانتهى به المطاف إلى التدريس في إحدى جامعات الساحل المتحد بعد رحلة طويلة بدأت بتمكين علي بن سعيد الأحقافي له من الوصول إلى عدن ثم إلى دبيج والحصول على جنسية الساحل المتحد.

لقد لاحظ الحمرمي تصميم الأحقافيين في ثورتهم وخبر بساطتهم وتسامحهم، إذ احتووه على الرغم من معرفتهم أنه أحد الطيارين الذين قصفوا ديارهم، وهذا ما جعله منتميا للأحقاف وأهلها الطيبين، حتى أنه بقي يرسل حوالة مالية مع آخر كل شهر إلى أوفير الأحقافية الفتاة التي بقيت من العائلة التي نفذ أمر القصف بحقها.

بقي البطل علي بن سعيد الأحقافي مرويّا لا يبرز إلا من خلال الراوي العليم الذي يتولى السرد في أجزاء من الرواية، أو من خلال الراوي المشارك نشوان الحمرمي الذي أسند إليه السرد في أجزاء أخرى، وفي ذلك دلالات عميقة تتعلق بتشكيل شخصية البطل الذي يمثل قيما عليا لا يمكن أن تتحقق في شخصية يتعامل معها القارئ بصورة مباشرة، فهي شخصية بعيدة المنال، إذ مثلت كيانا قيميا بحتا متجاوزة بذلك أي مصلحة شخصية، ولعل في تناول شخصية سالم بن سلم ما يمثل نموذجا حيا موازيا لشخصية الأحقافي، فبعد أن نجا من المعركة الأخيرة التي خاضها مع الأحقافي شفي من جراحه وخرج من السجن اشتغل في مجال تجارة الأسماك، فكان محبوبا من قبل الجميع غير مهتم لأي ربح قد يصيبه من التجارة، فكأنه ما زال يعيش قيم الثورة التي أمضى حياته متفانيا من أجلها. والحقيقة أن شخصية سالم بن سلم لم تظهر إلا من خلال الحوار، فقد جاء تناولها أيضا من خلال شخصية الحمرمي، إذ حافظت على تلك الصورة المثالية التي تبدو منتمية إلى زمان غير الزمان الذي نعيش فيه.

يبدو الراوي عنصرا تقنيا محضا في الرواية غير أنه يمثل من ناحية أخرى أهمية كبيرة في رسم الشخصيات وتوضيح ملامحها وأبعادها، فالراوي المشارك يجعل المتلقي أمام شخصية تسعى باستمرار إلى تحقيق توازنها الداخلي، وهذا ما كان مع شخصية الحمرمي الذي سعى إلى تعويض أوفير عن خساراتها، كما سعى إلى تسمية قاعة في الجامعة التي درست فيها حبيبته باسمها بعد أن تسبب في وفاتها، أما شخصية الأحقافي وسالم بن سلم فقد بقيتا شخصيتين بعيدتين لا تتوليان السرد بصورة مباشرة، وهذا ما هيأ لتناول معنى البطولة في شخصيتيهما.

تنتمي شخصية الأحقافي إلى زمن مختلف هو زمن الثورة والأمل والكفاح من أجل تحقيق الحالة المثلى، وقد برز هذا الملمح بصورة أكبر في آخر الرواية عندما عاد الحمرمي إلى الأحقاف بعد مضي عقود على انتهاء الثورة، إذ وجد الناس مختلفين يسعون إلى تحقيق مصالحهم بالدرجة الأولى، وقد انخرطوا في قيم المدينة، فوجد أن المبلغ الذي كان يبعثه إلى أوفير استولى عليه أحد أقربائها، وحين استعد أحدهم لتقديم المساعدة له وجد أنه يسعى لتحقيق مكسب مادي من خلال مشروع استثماري، على أنه لم يعدم ملامح إيجابية موجودة لدى بعض الشباب الذين يتناولون قضايا ثقافية في جلساتهم.

وإذا كانت شخصية البطل في «الأحقافي الأخير» شخصية ثورية بالدرجة الأولى فإن الرواية بطبيعة الحال ستحاول تشكيل مفهوم معين للثورة التي ينبغي أن تقوم على أسس أكثر ثباتا من تلك التي قامت عليها ثورة الأحقاف، حيث تمثل رمزية القراءة التي سعى الأحقافي إلى تثقيف الثوار من خلالها أساسا ثوريا مهما لتحقيق مساعي أي ثورة. ومن هنا فقد اتجه العميد الآنفي الذي اكتشف أنه ابن الأحقافي من خلال حبكة استغرقت الرواية كلها إلى القراءة والتثقيف، إذ حاولت هذه الشخصية إعادة اكتشاف ذاتها، فضلا عن محاولتها إعادة اكتشاف علاقتها بمحيطها.

لقد طرحت «الأحقافي الأخير» العديد من القضايا المتعلقة بالثورة والثائر والبطل الثوري، كما امتازت بتقنيات سردية دالة. وتبقى الرواية مفتوحة على قراءات عديدة يمكن من خلالها التوسع في الجانب المتعلق بالبطل أو تناول جوانب أخرى ذات أهمية.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على