المقاربات النظرية الروسية وواقع الحال على الأرض في سوريا

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

لا تزال وسائل الإعلام العالمية تناقش لقاء القمة الأول بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين في مدينة هامبورج الألمانية.

وسائل الإعلام والمحللون السياسيون يختلفون على نتائج هذه القمة، لا من حيث الواقع الملموس والتقدم، سواء في تسوية الأزمة السورية أو في تحسن العلاقات بين موسكو وواشنطن، ولكن من حيث التقييم النظري، بصرف النظر عن إصرار الولايات المتحدة على المضي قدما في تحقيق خططها وسيناريوهاتها لا بشأن سوريا فقط، بل وبشأن منطقة الشرق الأوسط عموما، وترتيب أوراق بعيدة تماما عن روسيا ومصالحها، على الرغم من أن موسكو تحاول بشتى الطرق إشراك الولايات المتحدة ولو نظريا في العديد من المبادرات التي تطرحها، أو ذكر الولايات المتحدة في سياقات دبلوماسية تشير إلى أن واشنطن قاب قوسين أو أدنى للاستجابة لسيناريوهات روسيا.

في مقال نشرته صحيفة "نيزافيسيمايا جازيتا" الروسية، عَرَض المحلل السياسي الروسي أوليج أندرييف تصوره لنتائج ما سماه بـ"اتفاق فلاديمير بوتين ودونالد ترامب حول إنشاء منطقة خفض التصعيد في جنوب - غرب سوريا". وبصرف النظر عن عدم وجود اتفاق بالمعنى الذي يقصده المحلل الروسي، إلا أن وجهة نظره تتضمن بعض الجوانب المهمة لعلاقات البلدين الكبيرين، مع إصراره على تغييب العديد من الحقائق لصالح روسيا وإيران ونظام الأسد، أو الالتفاف على الواقع لتصوير الأمور على الأرض على عكس ما هي عليه.

المحلل الروسي يرى أن هناك وجهتي نظر متناقضتين إزاء اتفاق الرئيسين الروسي والأمريكي في هامبورج. الأولى، ترى أن "الاتفاق" أضفى الشرعية على الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، وما سينجم عنه من تبعات على صعيد المشاركة لاحقا، حتى في عملية إعادة بناء البلاد في ما بعد الحرب. أما وجهة النظر الثانية، فتشير إلى عكس ذلك، وتؤكد أن الاتفاق بمجمله كان تنازلا أمريكيا، فرضه الواقع العسكري على الأرض، وتوحيدا للجهود ضد "الشر الأكبر" متمثلا في تنظيم "داعش" الإرهابي.

وفي الحقيقة، فإن الوجود الأمريكي في سوريا ليس بحاجة إلى شرعنة، انطلاقا من موازين القوى، ونظرا لأن الوجود الأمريكي قائم في سوريا وحولها حتى من قبل دخول الروس رسميا إلى سوريا بدعوة من نظام بشار الأسد. إضافة إلى أن الروس يتعاملون مع الأمريكيين الموجودين في سوريا، ويتحدثون صراحة عن ذلك، ويطالبون بالمزيد من التعاون.

الأمر الثاني يتلخص في أن سيناريوهات واشنطن لمكافحة داعش مرتبطة بعدد من المتغيرات والأوراق والملفات الأخرى في سوريا والعراق، وتسعى واشنطن للاستقلالية في هذا الشأن بعيدا عن روسيا التي تريد التركيز على مكافحة الإرهاب وتأخيرات ملفات قد تكون لها الأولوية في السياسات والسيناريوهات الأمريكية. وهذا لا ينفي أن روسيا تهتم بملفات أخرى، ولكنها تريد تمريرها تحت غطاء أولوية مكافحة داعش وتأجيل الأمور الأخرى. وبالتالي، فالولايات المتحدة لم تتنازل لروسيا، وإنما سلكت طريقا آخر لتحقيق أهدافها، وهو ما يسبب إزعاجا شديدا لموسكو ويجعلها تطالب بالمزيد من التعاون، ويجبرها على التمسك بالورقة الإيرانية، والإصرار على مساندة الأسد شخصيا ودعمه.

إن روسيا تعيش على مقاربات نظرية مضرة، لأنها ترى أن الوضع القائم أو ما تسميه 
بـ"الاتفاق على هامش قمة الـ20" قد حقق مكاسب كبيرة لصالح موسكو ودمشق.

- النجاح في نهاية الأمر في توحيد الجهد المشترك مع التحالف الدولي في الكفاح ضد الشر الأكبر - "داعش".

- استبعاد مطلب "الرحيل الفوري للأسد".

- تأكيد اللاعبين الأساسيين في الشرق الأوسط، موسكو وواشنطن، مبدأ وحدة وسلامة أراضي سوريا وسيادتها.

وتربط موسكو "النجاحات" الثلاثة السابقة بجهود القوات الجوية - الفضائية الروسية، والإنجازات العسكرية - الهجومية التي حققتها قوات بشار الأسد على الأرض، وهو ما وضع واشنطن أمام الأمر الواقع وجعلها تخضع لموسكو ودمشق وتتفق معهما، لأنهما كانا سيقضيان على داعش من دون الولايات المتحدة!

إن وسائل الإعلام الروسية مصممة على تدشين حملة إعلامية ذات سقف عال مفادها أن اتفاق تخفيف التوتر في جنوب غرب سوريا ناتج عن اتفاق بين بوتين وترامب، وهو الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق. لقد نتج ذلك عن مباحثات كثيرة، ولقاءات سرية بين روسيا والولايات المتحدة في العاصمة الأردنية عمان، كانت إسرائيل حاضرة فيه بقوة، وإن كان ذلك ليس بشكل رسمي أو معلن. كما أن هذا الاتفاق يعكس تنازلا روسيا، لأنه ينص على إخلاء تلك المنطقة وما بعدها لمسافات معينة من أي قوات إيرانية أو ميليشيات تابعة لنظام الأسد. وهو تنازل مزدوج لكل من واشنطن وتل أبيب على أمل أن تبدي الولايات المتحدة مرونة ما في المناطق الثلاث الأخرى التي لم يتم الاتفاق بشأنها.

الروس يرون أن هذا الاتفاق، وفقا لوجهة النظر الأولى، يشبه إلى حد ما اتفاقية يالطا عام 1945. وكما كان عليه الحال في الحرب ضد ألمانيا النازية قبل سبعين عاما، حيث إنه دون أن يبذل الأمريكيون مجهودا حربيا كبيرا في مواجهة "داعش"، تمكنوا ببراعة دبلوماسية من "القفز إلى المقطورة الأخيرة"، لجني ما أمكن من المكاسب الجيوسياسية. ولكن الولايات المتحدة والتحالف التابع لها يعلنان يوميا عن عمليات ضد داعش، وروسيا نفسها ترحب بها. كما أن هذين الطرفين يقيمان قواعد في الداخل السوري، ويتحركان جوا وبرا بسهولة وبالاتفاق مع الروس أنفسهم.

الأمر الثاني الذي تصر عليه موسكو، هو ما تسميه بـ"التغيير في الموقف الأمريكي" الذي كان يطالب دوما وبإصرار على رحيل الأسد دون قيد أو شرط، والذي تغيَّر -حسب مفهوم موسكو- عشية لقاء القمة في هامبورج، عندما أشار وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إلى أن "الأسد باق، ولكن لفترة محدودة، إلى الانتخابات العامة، وأن المجتمع الدولي لن يقبل بسوريا تحت قيادة نظام الأسد.. ونحن نطلب منهم (السوريين) أن يجدوا لأنفسهم زعيما آخر".

إن روسيا تعتبر ذلك تغيرا في الموقف الأمريكي، مما يجعلنا نبتعد عن الواقع وننعطف إلى مبارزات نظرية تهدف إلى رفع سقف التوقعات، والقراءات غير الدقيقة لمجمل التحركات الأمريكية، ونلتزم بالتمارين النظرية التي تطرحها موسكو ووسائل إعلامها ومحللوها "الاستراتيجيون". فالمهم بالنسبة لواشنطن هو رحيل الأسد ونظامه وإطلاق يدها في ترتيب البيت السوري بما يحافظ على مصالحها بالدرجة الأولى، ثم مصالح حلفائها بالدرجة الثانية. وذلك دون أن تتكرر لا تجربة العراق ولا تجربة ليبيا. والولايات المتحدة لديها سيناريوهات كثيرة مرنة ومتحركة لتحقيق ذلك، ولإرهاق روسيا، واستنفاد طاقة إيران، وفك الارتباط بين موسكو وطهران من جهة، وبين موسكو وأنقرة من جهة أخرى، وتدشين صياغات جديدة في المشهد السياسي بالشرق الأوسط من جهة ثالثة تعمل على إضعاف تركيا وإيران وإبعاد روسيا نسبيا. ولكن الأخيرة دأبت على رفع الأسقف، سواء عبر التصريحات الدبلوماسية الملتبسة، أو التقديرات غير الدقيقة، أو الحملات الإعلامية التي تعكس عدم خبرة وسوء تقدير ودرجة حرارة عالية. كل ذلك من أجل مواصلة التمارين النظرية والأحاديث حول الشرعية وضرورة التعاون مع واشنطن.

في نفس هذا السياق، ترى موسكو أنه يمكن قراءة ما تسميه بـ"الموافقة الأمريكية على مبدأ وحدة الأراضي السورية" بأنها تتجاوب مع النهج السياسي لأنقرة وموسكو. بيد أن هذا التوجه أثار قلقا شديدا لدى الأكراد -أحد الحلفاء الأساسيين لواشنطن في المنطقة. فالأكراد وُضِعوا أمام الأمر الواقع، حيث لا حديث عن أي كيان كردي مستقل على الأراضي السورية. ومن الواضح أن واشنطن وبغير مبالاة، استغلت العامل الكردي لتحقيق مآربها الخاصة.

هكذا تفكر موسكو ومحللوها. ولكن واشنطن لم تطرح أبدا تقسيم الأراضي السورية، ولا حتى تركيا أو قطر أو السعودية. لا أحد تحدث عن تقسيم الأراضي السورية. فكيف يتم الاتفاق أو التوافق على شيء لم يُطْرَح أصلاً!! بمعنى أن الروس "يغنون ويردون على أنفسهم" عبر ضلالات سياسية وتضليل إعلامي من أجل رفع السقف إلى مستويات لا علاقة لها بالمنطق عموما، وبالمنطق السياسي البناء على وجه الخصوص. 
أما الأكراد، فلديهم علاقات جيدة مع كل من موسكو وواشنطن. وروسيا والولايات المتحدة تدعمان الأكراد على حد سواء. والأمر ليس مقتصرا على الأمريكيين إطلاقا. بل إن تركيا نفسها تعادي جزءا منهم وتدعم جزءا آخر. وهو الحال مع بشار الأسد الذي يتلاعب هو الآخر بالورقة الكردية.

وعلى الرغم من المناورات الكلامية - النظرية الروسية، فمن الواضح أن هناك قطاعات في مركز القرار الروسي تدرك جيدا أن تقاسم الأمريكيين المسؤولية مع الروس في جنوب - غرب سوريا، قد وضع جنوب سوريا تحت السلطة القانونية للأمريكيين، حيث أنشأوا مع الأردنيين في المناطق الحدودية قبضة عسكرية قوية. هذا، إضافة إلى أن شرق البلاد لم تشمله الهدنة فقط، بل إنه واقع تحت سيطرة الولايات المتحدة والتحالف الدولي. مما يعني أن الولايات المتحدة تخطط، بصرف النظر عن موافقة روسيا أو رفضها، لإحكام سيطرتها على المناطق الرئيسة في سوريا، وترك المناطق الساحلية لبشار الأسد وروسيا وإيران بشكل مؤقت.

إن روسيا وبشار وطهران يدركون جيدا أنهم يسيطرون على مناطق الساحل، أو إذا جاز التعبير على ما يسمى بـ"سوريا المفيدة" التي تضم كثافة سكانية عالية لاستخدام هذه الورقة في ما بعد أثناء تحديد المستقبل السياسي للبلاد. ولكن الأمريكيين وحلفاءهم يسيطرون على الجنوب والشرق وأجزاء لا بأس بها من الشمال، لقطع الاتصال بين غرب سوريا وأي دعم آت من الشرق، وتحديدا من إيران.

وهذا هو ما يعنيه تقسيم النفوذ الخطير الذي سيقود إلى كوارث حقيقية في المستقبل، لن تنفع معها لا الكثافة السكانية ولا المنافذ البحرية في غرب سوريا. ومن أجل التاريخ، فإن فكرة مناطق ما يسمى بـ"تخفيف التوتر" التي ظهرت بمبادرة موسكو هي أحد الأسباب الرئيسية التي قادت إلى ذلك، وستقود إلى ما سيأتي لاحقا من كوارث في سوريا. بل وكان من شأن تلك المبادرة الروسية، تقنين الوجود الأمريكي، وليس فقط إضفاء الشرعية. وذلك من أجل ملفات أخرى أبعد ما يكون عن سوريا وأزمتها، لأن روسيا دولة كبرى ولديها مصالحها المتشابكة مع قوى أخرى من حجمها، وعلى ملفات، يشكل فيها ملفا سوريا والشرق الأوسط مجرد ملفين يمكن التفاهم بشأنهما ضمن صفقات معينة، أو حتى ضمن ما يسمى بـ"صفقات الرزمة".

شارك الخبر على