بهارات سلوى

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

لا يخلو طعامنا فى البيت من البهارات. في بداية زواجي من سلوى، كان طعم الأكل غريبا عليَّ، دائما ما كنت أستخرج، ضاحكا، إحدى أوراق شجرة اللاورو التى حُشرت في فمي ولم أرها فى الطعام. يتحول إلى موقف كوميدى أحاول أن أجسِّمه بقوة، بينما أستخرج هذا الكائن الغريب من فمي، كأني أستخرج حشرة، متمثلا روح مسرحية 
"المتزوجون"، ولكن بنسخة رصينة أقل فكاهة.

كل ما عرفته من البهارات في بيت العائلة، قبل زواجي، كان التقليدي منها: الحبهان، الكسبرة، الجنزبيل، الشطة السوداني التي لم تغب يوما عن البيت إلا في السنتين الأخيرتين أثناء مرض أبي ثم وفاته، الفلفل الأسود، الكمون، المستكة، القرفة، النعناع. تلك البهارات التى شكلت حياتنا ومذاق أطعمتنا، ومنحتها النكهة الإضافية فى ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وربما تمتد لعقود قبل ذلك بكثير.

ترتبط البهارات بالإثارة، تضيف شيئا للحياة الراكدة للطعام، ومنها انتقل المجاز للحياة العادية، التي تحتاج لبهارات حتى يتخللها الإثارة والتشويق والرغبة. فهذا "المثير" يبعث فى الحياة، أو يكشف عن، جذوتها المشتعلة، "الملهلبة". يكشف البهار عن الجزء المخبوء فى عواطفنا، ليعيد له الحياة والنكهة والذائقة. كنا في حياتنا نبحث عن هذا الجزء المخبوء منها الذى يمنحها ذائقة مضاعفة، أو على الأقل يحافظ على المذاق الأصلي لها.
 
البهارات وعلاقتها بالضوء
 
لسلوى علاقة قوية بالبهارات مثل علاقتها بالرسم أو الفوتوغرافيا أو النحت، أو بأي شىء يدخل في حياتها. تتحول البهارات إلى درجات من الألوان والخطوط والضوء واللمسات التى تمنح الطعام ماهيته: "أي زيادة فى أي نوع من البهارات ممكن يعمل مشكلة فى الأكل، مرة خلطت الزعتر وورق اللاورو مع الحبهان، الخلطة عملت فلتر من المرارة، بقا طعم البهار أعلى من طعم الأكل الأصلي". لذا الاتزان فى إضافة البهارات ليس لعبة، يجب أن يكون بحساب، حتى لا يضيع طعم الأكل الأصلي. ولكن ليست هذه الحقيقة، فالبهارات لها شخصية أصلا غير متزنة يا سلوى، فأحيانا أشعر بنزق فى طريقة استعمالها للبهارات، ولا يكون أمامي إلا الاستسلام لهذا المذاق الجديد.

تضيف سلوى فى حواري معها حول البهارات، والذى أجريته معها في المطبخ أمام ذلك الجزء المقدس منه والذي يحتوي على عدة صفوف من الزجاجات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، والعلب البلاستيكية والمعدنية، والأكياس النايلون التى تحتفظ فيها ببهاراتها. هذا الجزء فى البيت له مكانة وارتجال وزحمة المرسم الخاص بها، الذى تتكاثر فيه ألوانها ولوحاتها وتجاربها وموسيقاها. تقول سلوى "من ريحة البهار بَاعرفْ هيأثر إزاي فى الأكل. البهارات زي بالتة الألوان فيها حاجة بتحركك تاخذ بهار معين، بتستطعمه فى ذهنك قبل ما تحطه على الأكل. زى البالتة، فيه لون تقيل، ولون خفيف، دايما باتْوقَّع التأثير قبل ما أحُطُّه. ريحة البهارات ومذاقاتها ليها أصل ومكان فى الذاكرة".

يستفزني هذا الكلام الفلسفي حول البهارات، فأتمسك بالجزء الفلسفي من الحوار وأسألها: هل البهارات عبارة عن قناع يوضع كي يجمِّل الأكل الأصلي أو يخفي عيوبه، بمعنى ما هناك خدعة؟ ترد معترضة: "ممكن طبعا لو زادت شوية، البهارات المفروض إنها تساعد فى توضيح المذاق الأصلي. زى الصورة، لما تشوف حاجة فيها ضوء وظل و"كونتراست"، البهارات بتعمل نفس العمل، بتدى كيان للأكل، من غيره هاتحس بحاجة عَدْبة مالهاش طعم، اللى هي ممكن تكون سمة الأكل الأصلي. مش كل الأكلات أصلها شهي، بالعكس، البهارات هي اللي بتديها المعنى والخصوصية. البهارات عاملة زى الضوء، بتنحت فى الأكل عشان تبيِّن شخصيته، بس لو زادت مش هاتحس بالأكل نفسه ولا البهار. لازم تحترم الطعم الأصلي أو الأكلة أولا، وبعد كده البهار يعيش معاها".
 
بهارات حسية وبهارات صوفية
 
تقسم سلوى البهارات تقسيمات طبيعية إنسانية، فيها ما هو حسِّي وما هو صوفي. "فيه بهارات طبيعتها حسِّية زى الشطة، وبهارات طبيعتها صوفية، اللى هى بتحتوي على زيوت عطرية متطايرة أكتر، زي الشمر، النعناع، الريحان، دول لهم طبيعة صوفية، أما ورق اللاورو فهو متوازن يقع بين الصوفي والحسي".

أسألها بأن هذا التقسيم متعسف قليلا، ترد علي لتوضح الفكرة أكثر، التى تتفرع  فى مسارات عديدة لا تنتهي عند طرفي الوجود البهاري، الحسي والصوفي: "فيه تفريعات كتير بين الحسي والصوفي، وممكن تتفرع لدرجات تانية من درجات الصوفية أو الحسية. فيه بهارات أوسع من الثنائية دى. فيه تقسيم بيعتمد على المصدر اللى جاية منه. فيه بهارات جاية من الجذور زى الجنزبيل اللى شاربة ريحة الطين والضلمة، وبهارات مصدرها من لحاء الشجر زى القرفة، ومن الورق زى اللاورو اللى متعرضة للهواء والشمس، وبهارات من البذور زى السُمَّاق، اللى محفوظة زى الجنين جوه الزهرة. كل مصدر بيدي شخصية للبهار حسب المكان اللي جي منه، وده بيوسَّع من الثتائية صوفية/ حسية".

ولكن عندما جاءت سيرة النعناع ردت سريعا وهى تجسد حالته الروحية وهي تشير لصدرها صعودا فى داخل الروح، كأنه البهار المسموح له بالدخول أو بالإعلان عن هذه المنطقة: "النعناع ده عشب رقيق له حالة أثيرية، وكمان الينسون النجمي اللى بيتعمل منه شراب الأوزو، باحبه أكتر من الينسون العادي، لأن له حالة أثيرية أكتر". حدث هنا التحام بين الحس الصوفي والحسى الأثيرى، كتصاعد للروح خارج الجسد. عادة ما تضع سلوى النعناع الناشف وتنثره على سطح طبق الجبن القريش المهروس. وتضعه أيضا مع طبق تشتهر به مكون من شرائح الباذنجان المشوي مع الزبادى مع شرائح الفلفل الأخضر، ثم ترش تلك الطبقة الأثيرية من النعناع الناشف المصحون يدويا.

تضيف تأكيدا لهذه الحالة الأثيرية ولكن بشكل مختلف، "أثيرية الكتمان" ورمزها بالنسبة لها أعواد القرفة والريحان تقول: "القرفة أيضا فيها حاجة أثيرية لما تمصها فى بقك هي واليانسون تشعر بتصاعد روحي داخلك. في طعمها حاجة معتقة. أنا باحبها مع الباميا، والفراخ ولكن وهي مصحونة. أما الريحان فهو عشب ملكي وليه قداسة ونبل زى ورق اللاورو، باحطه أوراقه مع شرايح الطماطم والسلطة، أو فى شوربة الطماطم". 
تمتد وتكبر العائلة الأثيرية فى قاموس سلوى للطعام فتضيف أيضا الشمر: "فيه كمان الشمر ليه ريحة أثيرية، قريبة من الينسون، بيعمل طعم حلو أوي مع السمك. وفى خبيز العيش".

ثم يُضاف أخيرا لهذه العائلة "الجنزبيل" الذى يمكن أن يدخل فى خانة الأثيرية بسبب لسعته فى الزور، التى لا تحرق، فقط تهيج الصدر وتفتح مسام الرئة لاستقبال الهواء: 
"الجنزبيل أصلا جذور عايشة فى الطينة، فيه حالة مستخلصة ومرت بمراحل. ممكن يتحط مع الفراخ، والسحلب ومع السبانخ كمان".

البهارات قديما لها علاقة بالروح، وطرد الأرواح الشريرة، وحضور الأرواح الخيرة. ممكن أن تحرق أو توضع كتميمة على أبواب البيوت مثل أوراق نبات اللاورو "الغار" للحماية من الأرواح الشريرة. تضيف سلوى وهى تترجم لي من كتاب التوابل: "الكراوية أيضا الناس بتحبها فى أوروبا، بتستعمل ضد الأعمال والفنون السوداء".
 
الشطة وعلاقتها بالمتعة والعذاب
 
تكلمنا أيضا عن الشطة أو الفلفل الأحمر الحار، عن هذا الجزء داخل الإنسان الذى يبحث من خلاله عن عذابه، الذى يفتح له باب المتعة. أبى كان يقلى قرون الفلفل الأخضر ويضعه مع كل أصناف الطعام، ولا يخلو البيت من الشطة وبذروها البرتقالية: "احتمال الشطة بتعمل حاجة مضاعفة، طاقة زايدة، اللى بياكلها بيتحدى نفسه، بيتحمل درجة من اللَّهْلَبة، عشان كده الشطة حسِّية، زى اللون الأحمر السخن للدم، مصدر للطاقة والإلهام، كلها حاجت بتِئلم، بس جميلة".

ومنها ذهبنا لأختها الكبرى "الحنينة" والتى لا تُغضب أحدا، ولا تسبب المتعة لأحد؛ وهي "البابريكا"، أو الفلفل الأحمر الحلو، الذى جاء مثل أغلب البهارات من شبه الجزيرة الهندية. بالنسبة لسلوى له رائحة تعتيق أهم من لونه الأحمر، وبالنسبة لي أعتبر البابريكا مجرد ديكور، لون إضافي ولكن رائحته غير متفاعلة مع الأكل، ولكنها تصر على أنه بهار عتيق. تستخدمه عادة مع البطاطس فى الفرن وطبق الجبن طبعا. لون البهارات الأحمر يأخذنا ويذكرنا ببالتة الألوان فتذكر بذور السُّماق، ذات المذاق الليموني اللاذع، واللون الأحمر الياقوتي، مثل حبات خرز الترتر كما تقول، وأراها مثل عقد ياقوت مفروط داخل الطعام. تضعه مع الجبن، ومع القرفة في محشى الباذنجان وورق العنب.
 
بهارات أرستقراطية وبهارات نبيلة
 
هناك بهارات نبيلة مثل ورق الغار "اللاورو"، وأيضا بهارات أرستقراطية مثل الزعفران، الذى لم يدخل بيتنا أبدا لغلو ثمنه الذى يصل لآلاف الجنيهات. أسأل سلوى عن سبب هذا الثمن المرتفع: "الزعفران زهرة بتحتاج إيد خفيفة زى قطف الياسمين بالظبط، لازم تشيل الورق بحرص شديد، وهو عبارة عن الجزء الأنثوى فى الزهرة، اللي لونه أصفر ذهبي، أما الجزء الذكوري فلونه بنفسجي. ويعتبر أرستقراطيا عشان سعره، ولونه الذهبي، وكمان عشان طعمه محدد وواضح وفريد". وعن استخدامه فى الطعام تقول سلوى: "مع وجبتي البايلَّا * والأسماك عموما". ثم أسألها عن طعم الزعفران المحدد؟ لا تعرف الإجابة ولا تقدر أن تصف طعمه برمز آخر، وربما هذا دليل على خصوصيته التى لا يوجد لها شبيه، ولكنها تشبِّه لونه الأصفر البرتقالي بأن له "احمرارا زى الغروب".

عادة تستبدل أوراق زهرة العُصْفر بالزعفران، لرخص ثمنه وأيضا لونه الذهبي الذي يضاف لليمون المخلل والأسماك والأرز وطبق البايلا. يقوم العُصفر بدور البديل كما فى الأفلام. وتضيف أن العُصفر مثل البابريكا، والاثنان يحملان طعما مكتوما وليس فواحا.
 
إكليل الجبل أو حصى البان
 
من الأشياء التى تستخدم بحرص شديد ليس لغلو ثمنها ولكن لتأثير طعمها القوي هى بهار "الأُول سبايس": عبارة عن حبة سوداء قد البسلة لما تتطحن ليها نكهة خليط بين القرفة والقرنفل والفلفل، ليها ريحة وطعم قوي جدا، عشان كده تتحط بنسبة قليلة جدا، لأنها نفَّاذة، وحضورها قوى، وتتحط مع كل حاجة".

ثم نصل في الحوار حول البهارات للحبَّهان الذي تصفه سلوى: "ريحته نفاذة عطرية لأنه بذر مش ورق شجر زى حصى البان، ويعتبر كمان مهضم". طبعا هو من البهارات القديمة التى رافقت مسيرة وجبة شوربة الفراخ فى البيوت المصرية.

أما حصى البان أو "الروز مارى"، الذى يعتبر قرين الحبهان، يستخدم عادة مع الأسماك ويسمونه أيضا "إكليل الجبل"، وارتبط اسمه بإحدى الأساطير عن السيدة مريم العذراء عندما وضعت عباءتها الزرقاء، بينما كانت تستريح؛ على نبتة الـ"روزماري" البيضاء فتحول لونها إلى الأزرق ولهذا أطلق على العشبة اسم: "زهرة مريم". **
 
عشبة الليمون واللاورو
 
في إحدى مرات ذهابنا لسيوة اكتشفنا هناك عشبة الليمون أو "اللويزا"، وعدنا من هناك بجذور النبات التى زرعناها فى بلكونة البيت التى تعتبر نموذجا مصغرا لصوبة زجاجية مفتوحة "يمكن تناولها كمشروب، أو توضع مع اللحوم والسمك والفراخ، طعمها ليموني خفيف، لأنها ورقة شجر فمش حاملة كمية الزيوت الموجودة فى الليمون العادى". وعلى ذكر الليمون، حضر الليمون الأسود المجفف، الذى يدخل فى الأكلات الإيراني مع اللحوم والباميا والأرز. يحمل الليمون الأسود المجفف رائحة وطعم ليمون كامنين، يُستعادا بمجرد ملامسة الماء أو الطعام.

أوراق اللاورو شريكة فى أغلب أطعمة بيتنا، هي القاسم المشترك بينها، لذا أصبح أليفا ولم أعد أستخف به كالسابق في بداية زواجنا. تصفه سلوى "شجرة نبيلة. بيطلع زهرة بيضا صغيرة. ريحته محافظة شوية، تشبه الشجر الصنوبرى، وبيستعملوه كإكليل الغار، بيتوجوا بيه الفائزين في الماراثون عند اليونانيين القدماء".

تذكر الموسوعة الحرة: منذ فجر الحضارة عُرف شجر الغار كنبات نبيل زينت أغصانه هامات القياصرة والأبطال وعرف زيت الغار كزيت سحري لما له من فوائد عظيمة. ولم يزل استخدام أوراق الغار حتى يومنا في معظم الوصفات الغربية رائجا، حيث لا يمكن تصور الأطباق الفرنسية بدون استخدام أوراق الغار.
 
بهارات كالجندي المجهول
 
طبعا هناك مجموعة من البهارات التى تعمل كالجندي المجهول في البيت، لكثرة استعمالها وقدمها، أصبحت موجودة وغير موجودة فى آن: مثل الكسبرة، والقرنفل، وجوزة الطيب، والمستكة، وحبة البركة السوداء، والكمون، والكركم الذى أراه أيضا يستخدم كديكور مثل البابريكا، وليس له شخصية واضحة، ولكن له لونا خادعا مثل القناع. هناك أيضا خلطة الكارى، والزعتر طبعا الذى يستعمل في بيتنا "دُقَّة"أو يرش على كل شىء كطبق البيض الأومليت، والجبنة بالتأكيد. ربما تستثنى أوراق "المريمية" من هذا التصنيف الجائر كجندي مجهول، فما زال لها خصوصيتها وتقديرها وشخصيتها الواضحة عند استعمالها، ليس فقط داخل الطعام ولكن خارجه أيضا فهى تحرق مع ورق اللاورو لطرد الأرواح الشريرة، والطاقة السلبية من البيوت، وعندما توضع مع الفراخ تمنح مذاقا حلوا جدا كما تذكر سلوى، وتصف لونها تبعا لبالتة الألوان الخاصة بها "ليها لون خَضَار مقفول، زيتوني، وملمس زى القطيفة".
 
الأرواح الشريرة
 
هناك أحد البهارات المستبعد أصلا من البيت، الذي يدخل في تكوين الكاري؛ كأنه أحد الأرواح الشريرة وهو "الحلبة": "مابستخدمش الحلبة خالص، مابستحملش حتى ريحتها". كان أطفال الفصل الابتدائي فى مدرسة "محمد كريم" يصنعون ساندويتشات تغلب عليها رائحة نفاذة، لم أعرف وقتها كنهها، تغير من مزاج وشاعرية طفل فى الصباح. كانت عبارة عن ساندويتشات حلبة معقودة "مفتقة" ويصطبغ لونها الدهنى الأصفر على نصف رغيف العيش الشامي من الخارج. اتفقنا أنا وسلوى على كراهية الحلبة، والتعامل معها كإحدى الأرواح الشريرة التى يجب أن نتجنبها أو حتى نوجد فى مجالها المؤثر.  

_______________________________________________________
 
- الجمل الموضوعة بين مزدوجتين هي نص حوار مع زوجتى الفنانة سلوى رشاد.
* طبق أرز إسباني ويعتبر أحد أشهر الأطباق ذات الأصول الإسبانية، ويرجع منشؤها إلى مدينة فالنسيا. قد تكون "الباييّا" محضرة بالخضراوات أو اللحوم أو بالأسماك. ويدعى الطبق المحضر مع الأسماك في المنطقة العربية "الصياديّة" أو "أرز السمك". الموسوعة الحرة.
** الموسوعة الحرة

شارك الخبر على