تشخيص محفوظى للجنون

ما يقرب من ٩ سنوات فى أخبار اليوم

بلغ القهوة (أخيرا) فمضى إلى كرسيه المعتاد، بيد أنه رأى ـ فى تلك اللحظة ـ شخصا غير غريب عن ناظريه كان له جسم ضخم وأوداج منتفخة ويسير فى خيلاء، عندئذ غالبته الضحكة الغريبة

أمس

 الأول حلت الذكرى العاشرة لرحيل نجيب محفوظ، أعظم مبدعى الحكى فى وطننا وأمتنا العربية وأجمل زهرة فى بستان نهضتنا الحديثة وأشدها استعصاء على الذبول والنسيان.
واسمح لى عزيزى القارئ أن أحتفى به معك، وأعيد استدعاء مختصر مخل أكيد لواحدة من أجمل إبداعاته..»همس الجنون»، التى كان عنوانها هو نفسه عنوان أول مجموعة قصص قصيرة نشرت له فى العام 1939، وهو يستهلها استهلالا غريبا، لا بل عبقريا، إذ مباشرة ومن دون أى تمهيد يقذف فى وجه القارئ السؤال الآتى:
و..ما الجنون؟
إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة والموت، تستطيع أن تعرف الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، فسر مغلق. وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفا بعض الوقت بالخانكة، ويذكر ماضى حياته كما يذكره العقلاء.. أما تلك الفترة القصيرة ـ قصيرة كانت والحمد لله ـ فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلا حائرا لا يدرى من أمرها شيئا.
كانت رحلة إلى عالم أثيرى عجيب، ملئ بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها، وتجئ أذنيه منه أحيانا ما يشبه الهمهة وما أن يرهف السمع ليميز مواقعها حتى تفر متراجعة تاركة صمتا وحيرة.
ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب أسدلوا عليها ستارا كثيفا من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفى، فاندثرت دون أن يتاح لمؤرخ أمين أن يحدث بأعاجيبها. كيف حدثت ؟ ومتى وقعت ؟ وكيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئا غير العقل؟ وأن صاحبه أمسى شاذا يجب عزله؟
كان إنسانا أخص ما يوصف به الهدوء المطلق. ولعل ذاك ما حبب إليه الجمود والكسل وزهده فى الناس والنشاط وقد عدل عن التعليم فى وقت باكر، كما أبى أن يعمل مكتفيا بدخل لا بأس به.. كانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل على طوار القهوة ويلبث ساعات متتابعات جامدا صامتا يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين ثقيلين، لا يمل ولا يتعب ولا يجزع.
ثم ماذا ؟!
رأى يوما ـ إذ هو مطمئن إلى كرسيه على الطوار ـ عمالا يرشون على الطريق رملا أصفر فاقعا يسر الناظرين، بين يدىّ موكب خطير، ولأول مرة فى حياته يستثير دهشته شئ فيتساءل لماذا يرشون الرمل؟ ثم قال لنفسه أنه (الرمل) يثور فيملأ الخياشيم ويؤذى الناس، فيعودون ويكنسونه، فلماذا يرشونه إذاً ؟!.. أمضى يومه حائرا أو ضحاكا، يحدث نفسه فيقول: يرشون فيؤذون ثم يكنسون..ها ها ها !
وفى اليوم الثانى لم يكن أفاق من حيرته بعد. وقف أمام المرآة يهيئ من شأنه.. ومضى يقلب عينيه فى ملابسه جميعا بإنكار وغرابة. ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك ؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله؟ بيد أنه لم يتوقف عن ارتداء ملابسه وغادر البيت كعادته (لكنه) لم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذى عاش فى إهابه دهرا طويلا، كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه على رغمه؟! أجل على رغمه. أليس الإنسان حرا ؟ تفكر مليا ثم أجاب بحماس : بلى أنا حر، وملأه بغتة الشعور بالحرية، وأضاء نور الحرية جوانب روحه..
مر فى طريقه إلى القهوة بمطعم رأى على طواره مائدة ملأى بما لذ وطاب، يجلس إليها رجل وامرأة متقابلين يأكلان مريئا ويشربان هنيئا، وعلى بعد يسير منهما جلس جماعة من غلمان السبل عرايا إلا من أسمال بالية، فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر وقال له فؤاده : «ينبغى أن يأكل الغلمان مع الآخرين»، ولكن الآكلين لا يتنازلان (طواعية) عن شيء من هذه الدجاجة، أما إذا رمى بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرم الغلمان منها.. أقترب من المائدة بهدوء ومد يده إلى الطبق فتناول الدجاجة ورمى بها عند أقدام العرايا، ثم سار إلى حال سبيله غير عابئ بالزئير الذى يلاحقه مفعما بأقذع الشتائم، بل غلبه الضحك على أمره فاسترسل ضاحكا حتى دمعت عيناه.
بلغ القهوة (أخيرا) فمضى إلى كرسيه المعتاد، بيد أنه رأى ـ فى تلك اللحظة ـ شخصا غير غريب عن ناظريه كان له جسم ضخم وأوداج منتفخة ويسير فى خيلاء، عندئذ غالبته الضحكة الغريبة التى مانفكت هذين اليومين تعابثه.. ثبتت عيناه على الرجل وعلى قفاه البارز (بالذات) وتساءل أيتركه يمر بسلام؟ معاذ الله.. قام واقترب من الرجل ورفع يده وهوى بكفه على القفا، رنت الصفعة رنينا عاليا وانفجر هو ضاحكا.. رغم الضرب والركل.

 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على