صحن المدينة

أكثر من سنتين فى الرأى

في كل مرة تقودني فيها قدماي إلى وسط البلد أرى أن شيئاً ما قد تغيّر. وكأن التغيير يتحرك باتجاه تحويل هذا الجزء من قلب عمان النابض أو صحن المدينة إلى مائدة كبيرة، متشعبة الفروع، مزركشة بألوان فاقعة من الاطعمة والعطور والحلويات والأشربة المرافقة، وقد تعددت أساليب عرضها (المحرجة أحيانا) على المستهلك العابر، دون أدنى التفاتة منه إلى المكونات الغذائية والأدوات المستخدمة في تناولها، ناهيك عن مصير بقايا تلك الأطعمة والمشروبات التي تتراكم عند أطراف الأرصفة وزوايا البنايات، بالرغم من وجود حاويات وسلال فائضة غالباً بمحتوياتها..!

ظاهرة أخرى ملفتة في هذا الجزء من المدينة هي التوجه المضطرد نحو تحويل الطوابق العلوية من أي مبنى يطل على الشارع إلى مقاهٍ تتصدر قائمة الخدمات فيها تقديم الأرجيلة، التي طالما سمعنا من الجهات المعنية والمهتمة بصحة المواطن كوزارتي الصحة والبيئة وأمانة عمان عن ضرورة منعها أو الحد من انتشارها..! لكن ما نراه على أرض الواقع يناقض تماماً ما يُقرأ على مسامعنا وما يقال لنا في الصحف أو التلفزيون! وبدون الرجوع لخبراء في هذا الموضوع فنحن، مواطنين ومسؤولين، نعرف تماماً أن كلمة السر هي «الأرجيلة»، التي لولاها لما أطلت علينا شرفات تلك المقاهي من الطوابق العلوية بداية!

خلال العام الحالي أيضاً الذي يوشك على طي صفحاته الأخيرة هذه الأيام، انتشرت دكاكين في أكثر من زاوية مطلة على صحن المدينة، تخصصت في تقديم وجبة المنسف المسكوبة في كوب من البلاستيك! فأين اختفت هذه الدكاكين؟ ولماذا؟

أما الأرصفة المخصصة أصلاً وبموجب القانون للمشاة فقط، فقد باتت عملياً مقسمة إلى أجزاء ثلاثة واضحة المعالم. فالجزء الاول الملاصق للبناء يخضع لمزاج صاحب المحل ومصلحته. وهناك الجزء الثاني المحاذي للشارع المخصص للسيارات الذي تصطف فوقه البسطات المتنقلة. والجزء الثالث بينهما الذي يمكن وصفه بالمسرب المتموّج أو الزئبقي، لأنه في معظم ساعات النهار يكون شديد الاكتظاظ بالمشاة وعابري السبيل والباحثين عن لقمة العيش، ومنهم الباعة المتجولون والمتسولون والمشردون!

يوفر الجزءان الأول والثاني من الرصيف المساحات القابلة للغزو غير المسبوق لمنتجات ملونة هشة، أقل ما يمكن القول فيها أنها غير ضرورية بالمنظور الاستهلاكي. ولكنه غزو غير عشوائي، كما يظن بعضنا.. لأن كل تلك التقسيمات تتم بموجب بروتوكولات غير مكتوبة وشروط واجراءات يعرفها الجميع، بمن فيهم أذرع أمانة عمان، التي تشن من حين لآخر، غارات مفاجئة على تلك التجاوزات ما تلبث أن تتكرر مع بزوغ شمس النهار التالي!

مقابل كل هذا النشاط التجاري متعدد الأوجه، لا تبدو في الأفق أية دلائل أو مؤشرات على تفاعل أو تجاوب أمانة عمان مع تبعات وسلبيات هذا التوجه الملفت، والتغول المكشوف على الرصيف وحق المواطن في استخدامه. فلا مرافق صحية أساسية للمواطن تبنى، ولا مواقف جديدة للسيارات تفتح، بل العكس هو الصحيح. وكأن أمانة عمان تكتفي بمراقبة المشهد المتدهور عاجزة عن إيجاد بدائل وحلول عملية. اللهم قيامها باستيفاء الرسوم المحددة عن كل مهنة بدقة متناهية!

إزاء هذه الصورة الديناميكية المربكة في صحن المدينة اليوم ينقسم المعنيون والمراقبون إلى فئتين: فئة تحبذ الأكل والشرب والاستمتاع ببعض الوقت بصحبة الأصدقاء، دون الالتفات للنتائج والتبعات المضرّة بالبيئة، وفئة تتحسر على أيام زمان غير البعيدة، حين كان العشاق يلتقون أمام إحدى دور السينما العريقة، بدون مواعيد مسبقة للتخاطب، على رأي الثنائي محمد عبدالوهاب وأحمد شوقي، بلغة العيون في صور ترفض مغادرة الذاكرة، على عكس هذه الأيام التي لا تتوقف فيها الهواتف «الذكية» عن توثيق الابتسامات الباهتة والبوزات الروبوتية!

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على